خاطرة الخميس حول تأثير سياق التعامل مع المنطلقات الإنسانية والشرعية على المواقف
الحمد لله..
كثُر النقاش هذه الأيام حول مفاهيم الصواب والخطأ والحلال والحرام والفضيلة والرذيلة..
وهذا يدلّ على الرُقى إذا كان فى سياق ترشيد المسار وإيثار كل من الصواب والحلال والفضيلة على الخطأ والحرام والرذيلة..
وليس الحديث هنا عن الثوابت والمتغيرات والقواطع والاجتهادات والمطلق والمتغير فى كل منها؛ لأن هذه المفاهيم يُمكن التعامل معها ضمن سياق الاسترشاد والترشيد..
لكن الإشكال، كل الإشكال، يكمُن فى السياق الذى يدور النقاش فى فلكه؛ فإدارة النقاش فى سياق ترشيد المسار تجد فيها الاحتكام إلى ميزان الحقوق والواجبات مع تركيز كل طرف على الواجبات قبل الحقوق..
وإذا نظرنا إلى سياق نقاش المرحلة بهذا المعيار واجهتنا مرارة وقائع الأحوال بحقيقة صادمة تتطلب وقفة صادقة مع النفس فى ضوء قوله تعالى: «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ».
فسياق الجدل الحالى يكاد يقتصر على تجنيد هذه المصطلحات (الصواب والخطأ والحلال والحرام والفضيلة والرذيلة) فى معركة شرسة لا تحتكم إلى قواعد الفروسية النبيلة، بل يحكمها منطق المُغالبة الـمُلِحّة بُغية الانتصار بغض النظر عن مشروعية السلاح المُستخدم ومهما كان الثمن باهظاً أو كانت الخسائر فادحة..
وعندها تتحول المبادئ والقيم والأخلاق، وحتى الدين، من مرجعية حاكمة لمفاهيمنا وسلوكياتنا إلى أدوات مستخدمة فى معاركنا، حرامٌ على خصومنا أن يسخروا منّا بدليل قوله تعالى: «لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ».. وعندما نسخر نحن من الآخرين تكون السُخرية حلالاً بدليل قوله تعالى على لسان نبيه نوح: «قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ».
وعندما يُسىء أحدهم إلينا فى لغة خطابه بسبٍ أو قذفٍ نستشهد بقوله تعالى: «لَّا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ…».. وعندما تصدر عنا نفس الإساءة فى لحظة انفعال فنُذكّر بنفس الآية الكريمة يكون الرد جاهزاً: «لماذا لا تُكملون بقية الآية (إِلَّا مَن ظُلِمَ)؟».. وننسى خاتمة الآية: «وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا». أو نستشهد بقوله سبحانه: «فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ»..
وعندما نكون حُكّاماً نستحضر قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ»، وعندما نُعارض الحكام نأتى باختلاف المفسرين حول معنى «أُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ»، فتارة نقول إن أولى الأمر هم العلماء وتارة نُنبّه من يحتج علينا بالآية إلى كلمة «مِنكُمْ» معللين خروجنا عن الطاعة بأن هؤلاء الحكام ليسوا منّا..
وعندما نُطلق العِنان لأنفسنا فى النيل من الآخرين نتمسك بأن «حرية التعبير» من حقوق الإنسان بينما إذا نال الآخرون منّا نستدعى ضابطاً يُقيِّد هذه الحرية: «أنت حر ما لم تضر» وتظهر مفردات «الخطاب التكفيرى» و«التحريض على العنف» و«الفتنة الطائفية»..
وعندما نكسب الجولة الانتخابية نتمسك بتلابيب الديمقراطية والاحتكام إلى الصندوق.. فإذا ما خسرنا الجولة صرخنا بأن هناك مبادئ حاكمة تقررها مواثيق حقوق الإنسان لها قيمة تفوق ديمقراطية الصناديق؛ لأنها تضمن عدم اعتداء الأغلبية على الأقلية..
أو يستحضر بعضنا نصوصاً شرعية توجب الالتزام بالبيعة وتحكم على من خرج عنها بالقتل.. حتى وإن كنّا قد التزمنا بالعقد الاجتماعى للدولة الديمقراطية الحديثة الذى لا تنطبق عليه صيغة البيعة ولوازمها..
وعندما تُتاح لنا منابر الإعلام نَصول فيها ونجول؛ فإذا أُتيحت لمن يُخالفنا اتهمنا الإعلام بالعمالة ومخالفة المسلك الثورى واتهمنا من يختلف معنا بالنكوص عن الوفاء للشهداء فى حال كنا ممن يُطلق عليهم «القوى المدنية»، أما إذا كنّا ممن يُطلَق عليهم «الإسلاميون» فيمكن أن نضيف إلى قائمة الاتهام للإعلام بأنه «علمانى محارب للإسلام» وإلى قائمة الاتهام لمن يختلف معنا بأنه ممن باع دينه ووطنه بعَرَضٍ من الدنيا قليل، خصوصاً إذا كان ممن ينافسنا فى شعار «الإسلاميين» الذى نحمله!
وعندما تقف الدول الغربية فى صف خُصومنا نتّهمُ الخصم بأنه عدو للوطن حليفٌ للإمبريالية الظالمة والرأسمالية المجرمة إن كنّا من فريق «اليساريين»، فإذا كنّا من فريق «الإسلاميين» فيكون من يُخالفنا فى هذه الحالة من أعداء الله؛ بدليل قوله تعالى: «وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ»، وتظهر الأبحاث والدراسات التى تشير إلى المؤامرات ومخططات الحرب على الإسلام..
كما يصبح التردد على سفاراتهم دليلاً قاطعاً على العمالة، والتحاور معهم انبطاحاً، وعقد المعاهدات معهم خيانة..
فإذا اقتضت مصالح تلك الدول أن تقف فى صفنا أصبح ذلك مؤشراً على موافقتنا للمجتمع المتقدم ودليلاً قاطعاً على سلوك مسار التنوير إذا كنا من «اليساريين»..
فإن كنا من «الإسلاميين» كان وقوف تلك الدول إلى صفنا دليلاً على سعتنا وقدرتنا على الاستيعاب وحكمتنا فى إدارة الواقع وحِنْكتنا فى التعامل مع الأعداء، وذلك من باب المصلحة الشرعية.. وتنهال الشواهد من القرآن والسنة «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا»، ودروس صلح الحديبية تُعطينا مشروعية التنازلات الجزئية فى سبيل القضية الكلية.. وهكذا..
وعندما وعندما وعندما… فالأمثلة كثيرة ووقائع الأحوال مُثيرة مَريرة..
ولعل الإشكال لا يكمن فى نوع المبادئ والقيم والشريعة التى نستشهد بها بقدر ما هو كامنٌ فى حقيقة هذا الاستشهاد ومدى مصداقيته..
فالصدق فى طلب الحق مع الثبات على المبادئ الـمُعلن الإيمان بها وبذل الوسع فى سبيل تحقيقها جهاد يثمر الوصول إلى وضوح الرؤية وتحقيق المطلب «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا».
ولعل السؤال المفتاح لوضوح الرؤية:
هل استشهدتَ بالنص أو المبدأ لتُقرِّر أم لتُبرِّر؟
هل استشهدتُ بالنص أو المبدأ للاحتكام أم للاستخدام؟
فالقضية متعلقة فى المقام الأول بوضوح الرؤية لديك فيك.. فهى البوصلة التى تُعينك على وضوح الرؤية لديك فى الواقع المحيط بك.
«وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ».
اللهم نوِّر بصائرنا وصفِّ سرائرنا ونقِّ ضمائرنا وألِّف بين قلوبنا وألهمنا الرشد فى القصد والقول والفعل يا رءوفاً بالعباد.