الحمد لله
أرسل أحدهم للفقير إلى الله مقطعاً لفتاة انفصلت عن خطيبها لتخوض مغامرة التقدم فى مسابقة غنائية عالمية بنسختها العربية محاولة من خلالها أن تحقق حلمها فى النجومية..
وكان المرسل مستنكراً ومحوقلاً ومسترجعاً وشاكياً المستوى الذى وصل إليه شباب الجيل..
فتأملت محتوى المقطع وما حصل فيه من بكاء مرير للفتاة عندما رفضت لجنة الحكم ترشيحها بالرغم من الثمن الباهظ الذى دفعته لتشارك فى هذه المسابقة..
ثم تأمّلت اللفتة الإنسانية التى جعلت أحد الفنانين يخرج خلفها ليمسح دمعتها بخبرٍ مفاده أنهم سوف يعطونها فرصة أخرى لتغنّى أمامهم تقديراً منهم لارتباكها.. وتأمّلت فرحتها وهى تقفز عند خروجها وقد نالت فرصتها.
ولن أتوقف هنا عند كمّ المخالفات الشرعية الموجودة فى البرنامج فهى معروفة.. وأخشى أن تكون قد أصبحت مألوفة.. ولا عند الغزو الثقافى الكبير الذى يروج له سماسرته فى المنطقة..
لكن الذى استوقفنى بل وأبكانى هو القدر الكبير من المشاعر الإنسانية المكبوتة.. والتى لم تجد ولم تُجِد سبيلاً للتعبير عنها إلا فى هذا القالب فأخذت تغنى: «سامحتك كتير سامحتك.. بقلبى الكبير سامحتك» ثم تغنى «ياللى ظالمنى» وكأنها تنوب عن جيلها فى مخاطبة الواقع الذى يعيشونه ونحن جزء منه بل لقد شاركنا فى صياغته..
واستوقفتنى الآمال العريضة التى تحدوها إلى البحث عن الفرصة مهما كان الثمن الذى ستبذله..
وهو ما جعلها تنفجر بالبكاء على فوات ما عقدت آمالها عليه وضحّت من أجله بخطيبها..
فحرّكت فى القلب كوامن الأسى ونبشت دفين الألم من تفريطنا فى حق الشباب..
واستوقفتنى الطاقة العظيمة التى كمُنت فى باطنها فلم تعد مستعدة للالتفات إلى المعوقات التى تقف أمام انطلاقها.. لتخاطب الشاشة ومن وراءها من المشاهدين قائلة: قلت لكم سوف أنجح..
كل هذه المعانى من وراء ظاهر الأفعال والتصرفات التى لا نراها مناسبة، هى فى حقيقتها كنوز فى جواهر قلوب شبابنا لم ننتبه إليها حال انشغالنا بالحكم على تصرفاتهم.
ومقطع آخر أرسله شخص آخر لشباب تجمّعوا فى سيناء وتدربوا لتنفيذ عملية ضد الكيان الصهيونى المحتل غير مبالين بما يدور فى بلادهم من معترك سياسى ولا بالعواقب المترتبة على ما هم مقدمون عليه..
وكان هو أيضاً مستنكراً ومنتقداً وساخطاً على مستوى الجهل وقصر النظر لدى هؤلاء الشباب..
فتأمّلت الفيلم الترويجى وما فيه من حرقة صادقة لدى أحد هؤلاء الشباب وهو يذكر غيرته على النبى الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفضه لما تعرض له من إساءة، ويتحدث بإحساس صادق عن آلام إخوتنا فى فلسطين وعن الظلم المجحف الذى ينزل بهم صباح مساء فى سجون العدو الصغيرة أو سجن الوطن الممزق..
ثم تأملت شكواه.. واستوقفنى عمق الألم وهو يصف خيبة أمله فى تنظيم إسلامى تربى فى أحضانه وبذل له عمره وجهده.. وكمّ التضحيات التى قدمها وهو منتظم فيه وكيف أنه هجره لما فقد الأمل فى صدق قياداته وكانت صدمته فيهم عميقة..
ثم قرر الانفصال عنهم لينضم إلى تنظيم رآه جهادياً جاداً، ليتدرب فيه ويستعد لنيل فرصته فى نيل الشهادة على حدود فلسطين..
ولن أتوقف هنا عند سطحية فهم هذا الشاب لدينه ومخالفته لأحكامه التى تضبط ميزان المصلحة والمفسدة وتُقدّر عواقب التصرفات، ولا عند استغلال أمراء الحرب لهذا الجهل وتوظيفه فى خدمة من يديرون اللعبة السياسية الكبيرة التى تعصف بالمنطقة، فهذا أمر متكرر الحدوث منذ أكثر من ثلاثة عقود..
لكن الذى استوقفنى بل وأبكانى أيضاً هو كم المشاعر الإنسانية الجياشة التى كانت تُحرك هذا الشاب وصوته الشجى وهو ينشد: «غرباء غرباء.. غرباء ولغير الله لا نحنى الجباه.. غرباء وارتضيناها شعاراً للحياة»..
والآمال العريضة التى عبّرت عنها ابتسامته المشرقة وهو ينظر إلى آلة التصوير قبل أن يقضى نحبه قائلاً: أسأل الله أن يتقبلنا ويرزقنا ما نتمنى «الشهادة»..
والطاقة العظيمة التى كمُنت فى باطنه فلم يعد مستعداً للالتفات إلى المعوقات التى تقف أمام انطلاقتها وهو يتلو القرآن الكريم فى آخر صلاة صلّاها قبيل تنفيذ العملية: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ثم يكرر «حسبنا الله ونعم الوكيل».
أعلم أن هذه المقارنة لن تروق لأى من الفريقين..
ولسوف يحتج الأول متسائلاً: كيف تقارن الجهاد والتلاوة والشهادة بالفسق والفساد والعرى؟
كما أن الآخر سيحتج متسائلاً: كيف تقارن الفن والإبداع والجَمال بالقتل والعنف والإرهاب؟
لكنه الشعور بحجم المسئولية تجاه هذا الجيل الذى يحمل من مقومات ارتقاء الأمة ما لم نهتم نحن بفهمه فضلاً عن إدراك واجبنا تجاهه..
فقبل أن نعيب عليه اندفاعه خلف كل صيحة من الغرب أو الشرق، هلّا سألنا أنفسنا عن البديل الأصيل الذى قدمناه لهم؟
وقبل ذلك كله هل كنّا نحمل من عمق التفهّم لمعاناتهم ما يمكن به أن نُقدّم لهم شيئاً أكثر من الاستنكار والاتهام والهجوم؟
ولنسأل أنفسنا بشجاعة نقد الذات..
هل نحمل فى طيات عقولنا وكوامن قلوبنا فهماً حقيقياً لموروثنا العظيم المتنوع المتجدد نميّز به الفرق بينه وبين ما عَلِق به من ركام العادات المتوارثة والأعراف البالية والعنصرية المقيتة؟
إن هذا الشباب ماضٍ فى طريقه ولن توقفه قوة سياسية ولا عسكرية ولا اقتصادية.. محلية كانت أو إقليمية أو دولية.. ولن يوقفه قتل ولا حبس ولا تشويه..
ومهما انخدع -مؤقتاً- بشعارات بعضنا أو هتافات الآخر فلن يستمر ذلك طويلاً..
ويجب أن نعى ذلك جيداً لنقرر:
إما أن نؤدى خدمة حقيقية لهذا الجيل.. أو نتنحى عن طريقه ونتركه يخوض تجربته إلى أن ينضج ولا نلومه على الثمن الباهظ الذى سوف ندفعه جميعاً لنتائج هذه التجربة أو قُل لنتائج تقصيرنا نحن تجاهه.
ولنتلمس هنا هَدى الرحمة المهداة صلى الله عليه وآله وسلم وكيف تعامل مع جُرأة الشاب الذى جاهر بالمطالبة بإباحة الزنا!
فقد أسكت أولاً صرخات المستنكرين لجُرأة الشاب على أن يُطالب بإعطائه الحق فى ممارسة الفاحشة الموبقة!
فقال لهم: «أقرّوه» أى دعوه يُمارس حقه فى التعبير عمّا يجيش به صدره.. ثم أشار إلى الشاب ليقترب منه مخاطباً عقله وفطرته بهدوء: «أترضاه لأُمك»؟
فيجيب الشاب مندهشاً: كلا!.. جعلنى الله فداك..
فيقول له: «وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم»..
وواصل مواجهته بالحقيقة التى غيبتها حماسة الرغبة: «أترضاه لأختك؟.. أترضاه لخالتك؟.. أترضاه لعمتك؟»..
ثم يضع يده الشريفة الحانية على صدر ذاك الشاب ويدعو له فيقوم وقد أبصر طريقه..
ثم لنقارن ذلك بعباراتنا الجارحة وألفاظنا البذيئة وقذفنا الآثم المنفّر للشباب عندما يصدر منهم ما نراه خروجاً عن الخُلق المعروف والأدب المألوف..
ولنسأل أنفسنا قبل أن نُوبّخ الشباب الغاضب.. هل وجدوا منّا بعض الاعتناء والاهتمام الذى وجده أسامة بن زيد من النبى الكريم مما جعل لتوبيخه إياه على قتله العدو بعد أن نطق بالشهادتين أثراً بالغاً فى نفسه استوعب به الدرس وتقبّل المراجعة؟
«فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ».
غفرانك ربنا وإليك المصير