الحمد لله
أصاب فضيلة مفتي مصر الشيخ شوقي علّام كبد الحقيقة حين دعا إلى العدول عن تسمية “الدولة الإسلامية” إلى تسميتهم “مُنشقّي القاعدة”.
فقد سبق أن حارب العالم “تنظيم” القاعدة، فنتج عن ذلك “تنظيمات” قاعدية كتنظيم جند الإسلام وأنصار الشريعة وأنصار بيت المقدس وصولاً إلى داعش.
ذلك لأن التأسيس لهذا الفكر الضال متغلغل في مدارسنا ومساجدنا وإعلامنا، بل وطريقة تفكيرنا، وتفاعلات نفوسنا، ونسق حياتنا.
فمدارسنا ضمّت مناهج مُتخمة بالتطرف تُخرّج حاملي “فيروس” الغلو، وتحاول الآن التبرؤ من جنينها غير الشرعي إذ يرفض الأب “العقدي” الاعتراف بنَسَبه، وتحاول الأم “التنظيمية” التخلص منه بوضعه أمام بيت أبيه في ليل الحرب الأسود.
ومدارس أخرى عجاف تعليمها الديني تعليم سطحي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، تُخرّج شبابًا لا يعي من دينة قدرًا يُحصّنه من الوقوع في شباك التجنيد للفكر الضال؛ فكان أن ظهر في صفوف داعش من خريجي هذه المدارس الطبيب والرياضي والمهندس، بل ومن خريجي المدارس الأجنبية والجامعات الأمريكية أيضًا.
ومن ذلك ما جرى منذ أن حُذف تدريس أحكام الجهاد من مناهج أكثر الدول الإسلامية إثر حادث تفجير برجي التجارة العالمية؛ فمنذ ذلك الحين والمدارس تُخرّج أجيالاً لا تفقه أحكام الجهاد في الشريعة السمحة، فأصبح من السهل التدليس عليهم وإيهامهم بأن ما يُرتكب من الجرائم هو الجهاد في سبيل الله.
ومساجدنا كذلك، في كثير من البلدان، بين الحالتين:
مساجد يحشو خطباؤها عقولَ روّادها بالغلو والتحجّر، وقلوبهم بالكراهية والبغضاء، ونفوسهم بالغضب والكبر. فالخطب نارية، والدروس تعبوية، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم وسيلة لتجنيد الشباب منذ الصِغر.
ومساجد أخرى خطابها هزيل وسطحي يؤدي خطباؤها أداء الموظف الرتيب الذي لا يحمل هم الدعوة، ولا هِمّة الخدمة، ولا استنارة التجديد، فيخرج روّادها كما دخلوا لم يُضِف إليهم التردد عليها سوى الملل والسآمة والتبرم من اضطرارهم إلى التردد على المسجد لأداء الفريضة.
وإعلامنا أيضًا بين خطاب ديني يُثير الكراهية، ويُغذي الطائفية، ويُغلق العقول، ويصيغ من التدين حالة كريهة تُجرِّد صاحبها من الجمال والمحبة والتفكّر، مع ما يصاحب ذلك من المتاجرة بكل ما له صلة بعاطفة المشاهد الجيّاشة تجاه دينه، فيتم الترويج لمنتجات تجارية لا ميزة لها عن غيرها سوى الاحتيال على المستهلك باسم إسلامي (مكة كولا، زمزم كولا، ساعات الحرمين، عطر الكعبة)، وأحيانًا تروّج للدجل والاحتيال تحت عباءة “الطب النبوي والرقية الشرعية والمعالجة بالأعشاب”.
وقنوات أخرى تستفز مشاعر المسلمين بما تبثه من استباحة لتخصص الفتوى، واستخفاف بالمقدسات، وتهجّم على القيم السماوية، والترويج للعلمانية المتطرفة، مبررة ذلك بحرية التعبير، والتنوير، والتغيير، غير عابئة بالقيم والأخلاق، وحق احترام ثقافة المجتمع، فتوسع الهوة الفكرية والنفسية بين شرائح الشباب، وتفتح الباب مُشرَعًا أمام استغلال الغُلاة المتنطعين لهذا الخطاب الجامح في تجنيد الشباب الغيور على دينه وقيمه، الغاضب من استباحة مقدساته، وضمهم إلى التنظيمات الإسلامية القتالية.
وقبل أن تثور ثائرة دعاة التنوير والتحرير والتغيير أُذكرهم بأن “كل” المجتمعات في الكرة الأرضية لها ضوابط لحرية التعبير تتجاوز الشعار العام “أنت حر ما لم تضر” إلى خطوط حمراء تجعل المتكلم يزن ما يقول، غير أنها تتفاوت بين الضبط القانوني والديني أو نوع من الضوابط غير المرئية تفرض على المتكلم الحذر، ومراعاة ما يُسمى بالذوق العام، فتجعله يشعر بمسؤولية الكلمة. فالحديث عن مجتمعات تعيش حرية التعبير المطلقة سذاجة ينبغي أن نتجاوزها بأي من خيارات الانضباط السابقة.
ولكن هناك ما هو أدق من المدارس والمساجد والإعلام، فكثير منّا “داعشي” في تفكيره ونظرته، تعامله مع زوجته وأولاده فظ غليظ، يُمارس عُقَدَه النفسية التسلُّطية على بيته، لا يقبل النقاش ولا المراجعة لقراراته، بل يعتبر ذلك “كفرًا” وجحودًا بحقه، وربما يستشهد بالنصوص الشرعية للتذكير بحقوقه ولا يُفكر في أن لمن حوله أيضًا حقوقًا عليه، وكذلك حاله مع موظفيه وَمرؤوسيه، ولو لم يكن لديه من الموظفين سوى السائق ومدبّرة المنزل “الخادم”.
فهذا الفكر الإجرامي هو نتاج طبيعي لأحوالنا، وإذا لم تكن لدينا رؤية كلية للمعالجة الشجاعة التي قد تكون مؤلمة، فسوف يظهر ألف تنظيم بعد القضاء على داعش.
والخيار العسكري إذا لم يكن مِبضع “مِشرط” جرّاح يُعمَل ضمن منظومة علاجية متكاملة، روحية وفكرية وأخلاقية ونفسية وتربوية، فلن تثمر الحرب سوى المزيد من تشظي الفكر وتعميق الانتماء إليه لدى شرائح من شباب الأمة.
ولعله من الواضح في هذا الطرح أنه لا يُنكر مقاتلة من يحمل السلاح، فقد يكون “واجبًا” في حالة تفاقم الخطر، لكنه يدعو إلى وجود رؤية كُلية لمعالجة الانحراف الفكري.
لقد آن الأوان لوضع حد للاقتصار على المعالجات الآنية القائمة على مجرد ردود الأفعال ولو كانت “إطفائية”، والتشمير للمبادرة التي تتجاوز التفاعل اليومي مع الأحداث إلى عمل جاد تتضافر فيه جهود العلماء والدعاة والمثقفين والإعلاميين، وتقوم فيه الدُول بواجبها الحقيقي تجاه بناء عقول الأجيال ونفوسهم، وإدراك أن الإعداد لا يقتصر على التعليم التجريبي وتوفير فرص العمل، وكل هذا مهم، غير أن شواهد الواقع تؤكد أنه غير كافٍ.
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
اللهم ألهمنا رشدنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، واهدنا سبيل الرشاد، يا لطيفًا بالعباد.