خاطرة الإثنين .. محاولة لتلمّس مداخل الفهم لقضية الشباب
شبابنا يعاني شَكْواه منّا وشكوانا منه، دون أن نفكِّر في سبيل تفهّم شكواهم أو يُفكّرون.
وأصعب ما في الأمر هو ضعف صوت التفهّم والتفاهم وضياعه في غمرة ضجيج تتابع الأحداث، وتحديات الآمال، وأنين الآلام.
وفي هذه الخاطرة محاولة لتلمّس مداخل الفهم لقضية الشباب، آمالهم وآلامهم، مفاهيمهم وحيرتهم، دواعي سرورهم وأسباب غضبهم.
وقد يعترض القارئ على جمع الشباب في بوتقة واحدة باعتبار اختلاف أفكار الشباب وتنوع توجّهاتهم؛ والجواب عن هذا هو أن ثمّة قضية مشتركة تتحد فيها أفكارهم وتنتظم بها توجّهاتهم وتنطلق منها مساراتهم.
ولنرجع قليلاً إلى نسق تسلسل الأجيال في تاريخ أُمتنا، حيث كان كل جيل يتحمل مسؤولية تربية الجيل الذي يليه وتزويده بأدوات العلم والمعرفة، مع الالتزام بفتح أبواب تمكينه من أداء دوره في بناء أمّته باعتباره حقًا له وواجبًا عليه.
فمنذ الصدر الأول كان صلى الله عليه وآله وسلم يعتني بالشباب ويمنحهم الوقت تربية وتعليمًا، كما كان يُسند إليهم المهام ويبني في نفوسهم استشعار المسؤولية، ويرتقي بنظرتهم إليها من مستوى حظوظ النفوس وأطماعها وتشوّفها للمناصب إلى سماء محبة الخدمة، وعلياء البذل والإيثار، ويقوّم الخطأ دون أن يهدم المُخطئ.
فهو الذي عاتب أسامة بن زيد رضي الله عنه عتابًا مريرًا عندما أجهز على من كان يُقاتله بعد أن نطق بالشهادتين، وعنّفه تعنيفًا شديدًا، وأغلظ له في التبكيت عندما حاول تبرير خطئه، حتى تمنى أنْ لو لم يكن قد أسلم قبل ذلك اليوم.
لكنه بعد أن لقّنه الدرس عقد له لواء سلّمه به قيادة جيش ضمّ شيوخ الصحابة أمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يجعل خطأه مبرِرًا لإقصائه وحرمانه.
وهكذا كان السيد المسيح عليه السلام مع حوارييه، وهكذا كان كليم الله موسى عليه السلام فقد استخلف يوشع بن نون على قيادة بني اسرائيل.
وتوالى هذا الهَدْيُ في الأمة إلى وقت قريب، فتصدّر الإمام الشافعي للتدريس والفتوى بإجازة من شيخه الإمام مالك وهو دون العشرين، ووضع الخوارزمي نظريته في علم الجبر وهو في الثلاثينات من عمره، وتولى محمد الفاتح قيادة الأمة وفتح القسطنطينية وهو في الرابعة والعشرين من عمره.
وكان هذا الإعداد يجمع بين البناء على أساس الهوية الثقافية والروحية والأخلاقية، ويُرغّب في طلب الحكمة بغض النظر عن مصدرها، فالحكمة ضالّة المؤمن، فاستفادت الأجيال من الناتج الثقافي لمختلف الأمم والحضارات، هندية ويونانية وصينية وفارسية، لتنظم حبّاتها في عِقد حضارة راقية سطع رونقها على جِيد الأمة قرونًا طويلة.
غير أن هذا الهَدْيَ قد تعطّل في عصرنا على نحو أوجد حواجز ثقافية ونفسية بين الأجيال، وانهزمت الأسرةُ أمام طوفان العولمة ولم تَعُدْ قادرة على مدّ أبنائها بالتراكم المعرفي والأخلاقي، وتخلّف التعليم فلم يعد قادرًا على إدارة إعداد الجيل، وتراجعت ثقافة مسؤولية كل جيل عن إعداد الجيل الذي يليه وتمكينه من حمل الراية، هذا إلى جانب انحسار دور الدولة في تحمّل مسؤوليتها عن بناء الإنسان.
وفي ظل هذا التراجع وجد الشباب أنفسهم في حيز الإهمال والتجاهل، فتجرّعوا مرارة الغُبن، واشتعلت بين جوانحهم نار الغضب، وبدت بوادر القطيعة بانصرافهم عن الجيل الذي سبقهم، وانطلاقهم في رحلة البحث عن الذات والمستقبل.
ولم يتنبّه الجيل السابق إلى مرارة معاناة الجيل اللاحق، وربما لم يشعر الكثير منهم بوجودها لما غلب عليهم من شواغل عصرهم وتحدياته وفرصه ومخاوفه وأطماعه، ولسبب جوهري آخر هو تراجع مفهوم المسؤولية تجاه الأجيال اللاحقة وتحوصله في بوتقة توفير الطعام واللباس والمأوى والتعليم النظامي الذي يوفر للأبناء فرصة العمل ليُفضي به الحال إلى أن يكون تِرسًا في مَيكَنة مصنع القرية العالمية الصغيرة دون انتباه إلى أهمية البُنية الثقافية في عقول الشباب ونفوسهم.
فلما ارتطم الجيل السابق بصخرة تمرد الشباب ورفضِهم لاستمرار هذا التجاهل لحقّهم في الإعداد وتولي المسؤولية وتقرير معالم المستقبل الذي سيواجههم بعد رحيل الجيل الذي سبقهم، لم يستوعب ذلك الجيل هذه الصدمة، ولم يتقبّلوها.
وهنا بدأت معركة صامتة حامية الوطيس بين جيلين كان من المفترض أن يكون أحدهما امتدادًا للآخر، أسفرت عن تركيز كل جيل على مَثالب الآخر، وتَعيير كل طرف للآخر بإخفاقاته، عوضًا عن مواجهة الأسباب والمُسارعة إلى معالجتها؛ فالجيل السابق أخذ يُهاجم جيل الشباب فواجهوه باللوم والتبكيت، وانتهجوا سبيل التَشكّي من جحود الشباب وعدم احترامهم لمن سبقهم، وانصرافهم عن الاستفادة منهم، مع استعجالهم لانتزاع قياد الأمور من الكبار دون توفر الخبرة والمعرفة.
وجيل الشباب أخذ بدوره يُهاجم سلفه ويتهمه بالفشل والتخلّف والعجز، وتحول الغضب إلى تنكّر لكل ما كان عليه أسلافهم، ونقضه عوضًا عن نقده وتقويمه، واتخذوا في ذلك مسلكين:
الأول: اتهامُ الجيل الذي سبقهم بالتخلف والنكوص عن الهوية والانحراف عن المسار ليتخطوا بذلك جيل الآباء إلى الأجيال القديمة، ففقدوا بذلك نمط التسلسل الطبيعي في البناء.
الثاني: تمردٌ على كل ما له صلة بالجيل الذي سبقهم، ومن ثمّ على كلّ الموروث الثقافي، وكأنهم يعاقبونه على تقصيره في حقهم بالتخلص من كل ما يربطهم به.
وفي هذا المنعطف انقسمت شرائح الشباب، وتفرّقت بهم السُبل، وأخذت كل شريحة طريقها في البحث عن بديل منقطع الصلة بالجيل الذي سبقهم.
ويمكن تقسيم نتاج هذا المنعطف إلى أربع شرائح:
1. شريحة أرادت الحفاظ على انتمائها الديني واتخذت سبيل القطيعة مع الجيل السابق بالتمرد على الأصول والقواعد التي بُنيت عليها المفاهيم الشرعية، وتنكرت لمفهوم السند الجامع للرواية والدراية والتزكية، وشقّوا لهم طريقًا في فهم ما كان عليه سلف الأمة وتشكلت لديهم منظومة معرفية مباينة لجيل الآباء، وتنوعت بتنوع اهتمامات الجيل الجديد.
2. شريحة أعرضت عن كل ما له صلة بالموروث الثقافي والحضاري والقيمي جملة وتفصيلاً، وقادها الغضب من إخفاقات الجيل الذي سبقها وتخلّفِه إلى البحث عن بديل منفصل عن كل ما له صلة به، فأقبلوا على كل ما ألقاه إليهم نتاج النموذج المعرفي الحداثي بعجره وبجره، في حالة تقترب من الانهزام الحضاري، بل تتجاوزه في بعض الأحيان، ليَكُرّوا على موروثهم بالنقض والتسفيه والسخرية، إلى حدٍّ قد يهتك المشترك الأخلاقي الإنساني في إدارة الحوار وأدب المناظرة، وبحالة تُشعِر بالروح الانتقامية الكامنة وراء هذا الاندفاع.
3. شريحة استحال غضبها إلى انتقام من الذات، وانغماس في الملذات، واستسلام للهزيمة دون نضال لتخطّيها، فاختاروا الغيبوبة عن واقعهم المرير ومعاناتهم العميقة، واتجهوا نحو المخدرات وإدمان الكحول، وقضاء الأوقات في اللهو واللعب دون غاية أو هدف، ليُدمّروا أنفسهم سُخطًا على واقعهم أو ازدراءً له.
ويقترب منهم نمط من الشباب استحال غضبهم إلى انتقام من مجتمعهم لتبتلعهم دوّامة الجريمة، فمنهم السارق ومنهم السفّاح ومنهم المغتصب.
4. شريحة غلَبتْ روحُ اللامبالاة حالةَ الغضب لديها فعبّرت عنها بالسعي نحو بناء الذات واكتساب المهارات بأخذ أسباب التقدم العلمي بمختلف اختصاصاته، أو خوض التنافس الاقتصادي، أو امتلاك أدوات الإدارة والتنمية البشرية، أو الاعتناء بالعمل الإنساني الخيري.
وهؤلاء متفاوتون في نظرتهم إلى التكوين الثقافي الحضاري للأمة، فمنهم من اختار القطيعة ومنهم من انتقى المفيد في مجاله، وهكذا..
وهذا التصوير للشرائح الأربع أخذ بعين الاعتبار البعد الأقصى والأقسى لمساراتها، واللون السوداوي لمظاهرها، ليكون بمثابة خطوط التحديد لِلَوحة الواقع التي تتضمن ألوانًا متعددة الدرجات لكل شريحة منها.
وعودًا على ذي بدء، فالقاسم المشترك بين هذه الشرائح هو قضية الشباب الأساسية التي نتحمل نحن الجزء الأكبر من مسؤولية كارثيتها، ونقتسم مع الشباب مسؤولية حلّها.
ولعلّنا لا ننجح في مسعانا إلى حل هذه القضية قبل تجاوز عقبة التفاهم والتفهّم، والاقتناع بالمسؤولية المشتركة عن الواقع الذي نعيشه معًا والمستقبل الذي سيعيشه الشباب ودورهم تجاه الأجيال التي تليهم.
وإن الاستمرار في التعامل مع إفرازات القضية الأساسية مع تجاهلها لن يثمر سوى المزيد من الكوارث والاصطدام بين الجيلين، مع استمرار هذه التركة البغيضة لتُلقي بظلالها القاتمة على الشباب في صور متنوعة من الصراع والضياع.
والخطوة الأولى فيما أظن هي فتح الباب أمام نمط من الحوار الصادق الجاد على نحو مختلف عن الصورة النمطية الفاشلة لحوارتنا التي أدّت إلى تشويه كلمة “حوار”.
فنحن بحاجة إلى حوار ينطلق من المحبة والرحمة، ويأخذ مسلك الإصغاء والتفهّم، ويكسوه الصبر والأدب، وتدعمه شجاعة نقد الذات وقبول هذا النقد في إطار البناء وليس الهدم أو جلد الذات وتصيّد الأخطاء؛
حوار يثمر تفاهمًا يرقى إلى مستوى تفعيل نِتاجه في الواقع ليُغيّر مساره؛
حوار يُفضي إلى احترام عقول الشباب والاعتراف بحقهم في التأهيل والتمكين، كما يُفضي إلى فتح باب استفادة الشباب مما لدى الجيل الذي سبقه من موروث وخبرات.
وأخيرًا..
هذه الخاطرة هي محاولة لتوصيف القضية واقتراح أول خطوة نحو حلّ عقدتها، وأما الخطوات التي تليها فهي نتاج لعمل مطلوب وجهد دؤوب يجمع أطراف التخصصات والكفاءات لتقوم بعملٍ من قَبيل الصناعة الإنسانية الثقيلة تتجاوز سطحية التوقف عند التعامل مع اليوميات وتتابع أحداثها.
غُفْرانَك ربَّنا وإليك المصير.