يشترك المنفذان فيما يتعلق بما تسمع وبما تقول، فالكذب والغيبة والنميمة تدنس القلب وتدخل الظلمة فيه وتورث الحقد والكراهية، والقلب أعز وأعظم عند الله من أن تجعله موضعاً لنفايات الناس من فحش القول والكلام.
لا ترضي لنفسك بأكل لقمة من حرام لأن لها تأثيراً مباشراً علي أحوال قلبك، فمن أكل الحلال أطاعت جوارحه وإن أبي، ومن أكل الحرام عصت جوارحه وإن أبي. فلا تأكل من مال مأخوذ برشوة أو باختلاس أو بظلم، وإن أفتوك وأفتوك.
وهي مسألة يأخذها الناس علي عكس المقصود منها، إذ يهرع الناس إلي التساهل في الفتوي، فإذا أفتوه بأن هذا حرام بما لا يوافق هوي النفس يقول أنا قلبي مطمئن واستفت قلبك وإن أفتوك. لكن ليس هذا محله، فالمقصود بالمسألة هنا هو الورع أي حتي لو وجدت من يفتيك، فانظر إلي قلبك بعدها هل تجد فيه خوفاً واستثقالاً من أن يكون الأمر مشوباً بالحرام أم لا، هنا تأتي متابعة القلب في الإحجام وليس في الإقدام علي مطامع النفس وما تريد.
فإذا أردت معرفة أثر هذا المنفذ علي قلبك راجع الأحاديث والآثار التي تحث علي طلب الحلال وأن من أمسي كالاً من عمل يديه أمسي مغفوراً له، وأن خروج العبد في طلب الحلال يرفعه إلي مراتب المجاهدين في سبيل الله، بل تأمل ما جاء في الأثر من أن ترك درهم من شبهة أحب إلي الله من إنفاق مائة ألف درهم في سبيل الله.
ذلك لأن القضية ليست قضية الإنجاز المادي المحسوس، بأن تسعي لاكتساب مائة ألف درهم ثم تنفقها علي الفقراء والمساكين وتقول إنها خرجت في سبيل الله، فالسالك إلي الله يسأل نفسه أولاً هل اكتسبتها بطريقة ترضي الله أم لا ترضيه؟ فإن كان المال من طريقة لا ترضي الله، فالأولي ألا تأخذها ابتداء فضلاً عن إطعام الفقراء والمساكين من حرام، فلهم رب يرزقهم. إن دعوة الله لك للإنفاق علي الفقراء والمساكين في جوهرها دعوة لك أنت لترتقي، ولا يتأتي أن ترتقي بشيء حرمه الله تعالي.
فإذا سدت المنافذ الحسية التي يمكن أن تشوش علي القلب، بقي نوع آخر من المنافذ وهو الذي يحتاج إلي نوع عناية منا، لأنه هو الذي يؤثر علي العين في نظرها والأذن في سمعها وعلي اللسان فيما يقول ويتحدث، وهي المنافذ المعنوية.
بداية كل طاعة يحبها الله تعالي خاطر في قلبك، وكل معصية تغضب الله تبتدئ بخاطر، فالكبائر من الكفر والفسوق والعصيان والفساد في الأرض كانت بدايتها خواطر في القلوب استجابت لها النفوس، وهذه الخواطر هي منافذ من الباطن ترد علي قلبك من أربعة مصادر.
المصدر الأول من النفس وخاطر النفس يسمي الهوي، والمصدر الثاني من الشيطان، ففي الحديث: الشيطان يلتقم قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس عنده، وإذا نسي الله التقم قلبه، والوسواس اسم خاطر الشيطان، والمصدر الثالث من الملَك، جاء في الحديث: «إنَّ للشَّيطانِ لَمَّة بابْنِ آدَمَ، ولِلْمَلَكِ لَمَّة، فأَمَّا لَمَّةُ الشيطانِ، فإيعادٌ بالشَّرِّ وتكذيبٌ بالحق، وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ، فإيعادٌ بالخَير، وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك، فلْيعْلَم أنَّه من الله، فيحْمَدُ الله، ومَن وجد الأخري، فَلْيتَعَوَّذْ بالله من الشيطان الرجيم» (سنن الترمذي ٥/٢١٩ برقم ٢٩٨٨ والنسائي في الكبري ٦/٣٠٥ برقم ١١٠٥١ والبيهقي في شعب الإيمان ٤/١٢٠ برقم٤٥٠٦).
فلمة الملَك مثل الرجل والصديق الناصح، والمصدر الأخير هو الخاطر الذي يقذفه الله في قلبك، وهي كلها من الله في منتهي الأمر ابتلاء أو عطاء، امتحاناً أو تفضلاً، لكن هناك خواطر يقذفها الله تعالي عز وجل في قلب المؤمن دون وساطة وهي تسمي الإلهام، «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ü فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا».
فالخواطر التي تخطر علي قلب ابن آدم من الهوي والوسواس والإلهام أكثر من أن تضبط وتحصي، إذ تتوارد زرافات علي قلب الإنسان في لحظة، بل قالوا: إن الإنسان ليرد علي قلبه في اليوم والليلة أكثر من سبعين ألف خاطر، ومن ثم فإن مهمتك أنت في السير إلي الله أن تقبل علي خواطر الخير وتعرض عن خواطر الشر، فخواطر الخير توسع مدارك القلب علي حين تحرك خواطر الشر في القلب إرادة الشر.
عندما أنظر إلي بعض شبابنا اليوم في ركضهم السريع من مكان لآخر ومن انشغال إلي غيره ومن تعدد الأمور التي قد ينشغل بها في آن واحد، أتساءل: متي يفكر هؤلاء ومتي يتأملون فيما يرد علي قلوبهم من خواطر، فليس الكلام هنا عن مبدأ الانشغال وإنما كيف تحول الإنسان إلي طاحونة بهذه الطريقة من ترتيب إلي ترتيب ومن شغل إلي آخر بحيث لا يجد وقتاً يتفكر فيما يرد علي قلبه من الخواطر وأن يضبطها بميزان الخير والشر.
المسألة أنك ما دمت سائراً إلي الله فلا ترضي لنفسك أن تحيا في طاحونة، قم بواجبك علي أحسن ما يكون، فإن كنت طالباً يجب أن تكون متفوقاً، لا للتفوق في ذاته وإنما لأن تتقرب به إلي الله تعالي، وإن كنت تاجراً فكن من أفضلهم وأربحهم بهدف التقرب إلي الله، وكذلك الموظف والعامل فالمهم أن تحيا حياتك ولكن بقلب مع الله.
ومعني الحياة بقلب مع الله أن أتخذ موقفاً من كل خاطر يرد علي القلب، فلا يمر خاطر في اليوم والليلة دون هدف، ألا أرضي لقلبي أن يصبح ساحة ومعتركاً لجميع أشكال وألوان الخواطر خيراً أو شراً دون ضابط.
بالاستجابة لخاطر الخير والإعراض عن خاطر الشر.
هناك موازين أربعة أحدثكم عنها في المقال القادم بإذن الله تعالي رزقنا الله وإياكم حسن الأخذ بالخواطر.