تسعي كل الفلسفات والنظم إلي بناء الإنسان أو المواطن الصالح- باعتباره محور البناء ومرتكز أي إنجاز حضاري -حسب رؤيتها للوجود وبما يتفق والقيمة العليا التي تتبوأ رأس الهرم لديها، فهي -وإن اختلفت في الرؤية أو المنهج – تتفق علي أن بناء الإنسان هو جوهر بناء الحضارة ذاتها.
فكل حضارة وفلسفة ونظام يسعي إلي بناء الإنسان، الذي يستطيع استيعاب تلك الرؤية وتحقيقها علي أرض الواقع ورعايتها وضمان استمرارها وفاعليتها، ولا شك أن مسألة بناء الإنسان لها صلة وثيقة بطبيعة القيم السائدة أو المراد إنتاجها في كل حضارة ونظام، علي نحو نشهد فيه نوعاً من التسابق وتحقق المصالح الفردية والخاصة، وتغليب المنجزات المادية، والاصطباغ بقيم الحرية في كل سلوك وتوجهات الإنسان الذي يحيا في ظل الثقافة الليبرالية.
علي حين أن السعي إلي بناء الإنسان وفق فلسفة تؤكد المساواة كقيمة عليا، قد أدي إلي تغليب سيطرة الجماعة ولو علي حساب حرية وكرامة الأفراد ومصالحهم، وتحولهم إلي قوالب جامدة فقدت الرغبة في الإنتاج فضلاً عن الإبداع، علي نحو أفقدها الهدف من المساواة تلك، ومن ثم انهيار الفلسفة والأنظمة التي قامت عليها.
إلا أن سيادة العدالة كأساس تنطلق منه الرؤية الإسلامية في بناء الإنسان الصالح، كانت لها خصائصها ومذاقها الحضاري المميز، فهي رؤية تنطلق من قيم ثابتة لها صفة الإطلاق المستمدة من التوحيد، رؤية لا تدفع نحو تأكيد المصالح الأنانية ولا صراع الطبقات والفئات، في الوقت نفسه لا تسعي إلي تحويل كل البشر إلي قوالب جامدة متكررة ضمن فلسفة الحزب الواحد أو الدولة الواحدة.
إن فلسفات بناء الإنسان قد أدت إلي إنتاج إنسان الحضارة الراهنة، الذي يتسم بالضياع والفشل في استيعاب طبيعة وجوده الكوني، فيدخل في صراع ضد كل ما يشكل استكمالاً وتحققاً لوجوده الحق، وما تزايد حالات الانتحار والجرائم التي تتسم بالبشاعة والوحشية وتغييب الوعي والعقول، إلا مظاهر لفشل المجتمع الحضاري، الذي حقق أعلي معدلات الإنجاز المادي في تأكيد جوهر الإنسان وطبيعته.
فالإنسان المسلم يتبني – كالإنسان في الثقافة الليبرالية- مفهوم المسارعة والسبق والمسابقة، مع اختلاف ما يتم التسابق نحوه أو المسارعة إليه، وهو يؤكد أن يد الله مع الجماعة دون أن يتحول إلي قوالب جامدة مرصوصة فقدت الإحساس والوجود، فالمؤمنون ليسوا بالقوالب الجامدة، وإنما هم «كالجسد الواحد» و«كالبنيان المرصوص»، بما لها من دلالات الفاعلية والحركة والتعبير عن جماعة متسقة تسعي إلي تحقيق غايتها، ولو في أشد المواطن وأقساها ..الجهاد في سبيل الله تعالي..التداعي بالسهر والحمي.
مجمل القول، أن الإنسان هو محور البناء ومرتكز الوجود الحضاري، وأن بناء الإنسان يتحقق عبر اكتمال عناصر ثلاثة : الرؤية الواضحة والقيم الثابتة، والأداة الفاعلة، فالرؤية الواضحة تقوم علي التوحيد الخالص الذي يرتقي بالإنسان إلي مرتبة التحقق بالعبودية، فيستحضر في كل تعاملاته مع نفسه ومع الكون حقيقة عبوديته لله تعالي، علي حين أن القيم الثابتة هي التي تحفظ عليه خط السير باعتدال، فهو إنسان مستخلف في الأرض، يحمل أمانة الهداية، ومكلف بإعمار الأرض وفق عناصر تلك الأمانة، ثم يتحقق الربط ما بين الرؤية الواضحة والقيم الثابتة عبر الأداة الفاعلة، التي تعني ربط العلم بالعمل، ومداومة الإنجاز والإتقان.
فهل لتلك المرتكزات أساس فيما تحدثنا عنه في مقالات سابقة عن الإحسان، وهل يمكن بناء الإنسان عبر التخلق بالإحسان؟ في حقيقة الأمر إن السعي إلي بناء الإنسان يتم عبر تحقق الإحسان بمفاهيمه ودلالاته الثلاث، فالإحسان ـ كما عرفناه سابقاً ـ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان ثانياً تعبير عن حركة المسلم عبر دوائر البذل والعطاء في دوائر متتابعة، الأقرب فالأقرب كالوالدين والأقربين واليتامي والمساكين وسائر الإنسان والحيوان والجماد، والإحسان ثالثاً بمعني إتقان العمل وإحسانه.
ذلك لأن اكتمال دوائر الإحسان الثلاث تلك، يعني كمال بناء الإنسان، حتي تصير عملية البناء تعبيراً عن نمطين من العلاقات.. علاقة معراج بالإحسان إلي رب السموات والأرض تتحقق بصدق المراقبة، وتجد ثمرتها في نمط علاقاته بالكون وما يحيط به عبر نماذج العطاء والبذل والإحسان في كل الميادين، فهي علاقة ترقي بالإنسان إلي التخلق بإحسان الربوبية لله تعالي (الرؤية الواضحة)، علي نحو يجد حلاوته في صدق معاملته مع الناس (القيم الثابتة).
والإنسان المسلم في معراجه بالإحسان أو في صلاته عبر دوائر العطاء إنما يتحقق من خلال المعني الثالث للإحسان وهو الإتقان، فلا تحقق لمعراجه، ولا يقبل منه في علاقاته الإنسانية والكونية إلا ما هو أحسن وأنفع وأتقن، فلا تكتمل دوائر الإحسان إلا بالمعني الثالث أو الضلع الثالث للمثلث الذي يكمله ويحقق كمال صورته وهو الإتقان، فهو يتقن العبادة مثلما يتقن المعاملة، وهو محسن في صلاته كما هو محسن في مصنعه، حتي يصير العمل ضرباً من العبادة والتقرب إلي الله تعالي بالإحسان والإتقان.
فالإتقان هو المنهج المطلوب في بناء الإنسان، لأن سعي الإنسان إلي تحقق الإحسان متوقف علي مهارته وقدرته علي إحسان ما هو موكول إليه من أعمال، وإتقان ما هو مكلف به من أشغال ومهن، علي نحو يحقق دلالات حب الله «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».
إن مجموع هذه الدلالات الثلاث للإحسان ليعطينا مواصفات بناء الإنسان في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، ويعطينا الوصف المرغوب لعلاقات الإنسان بربه وبالناس وبالكون، فيرتقي في علاقته بربه إلي إحسان العبودية ؛ إن استحضر مراقبة الله تعالي في كل وقت وعمل ؛ وإن أتي في كل أعماله علي أكمل وجه وأتمه، فيحقق في نفسه الطمأنينة والثقة بمعية الله تعالي ؛ فيكون للناس رحمة يعم نفعه الكون بأسره، وهو نفع لا يتوقف علي حدود النية أو سلامة القصد، بقدر ما يتوقف أيضاً علي القدرة علي إتقان ما وكل إليه من أعمال، فالإحسان الحق ليس إحسان صلاة ولا صيام، بل هو منهج حياة، وهو عبادة ومعاملة، وهو طاعة وأداء الحقوق علي أهلها.
كذلك يمكننا الوصول إلي ذات منهجية بناء الإنسان عبر التسامي من مرتبة الإسلام إلي مرتبة الإيمان إلي مرتبة الإحسان، فالإحسان يشمل معني الإسلام من جهة كونه أداء للفرائض والسنن علي أكمل وجه وأتمه، والإحسان يشمل معني الإيمان من جهة شعب الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَي عَنْ الطَّرِيقِ،
وَالْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» (صحيح مسلم)، فمجموع هذه الشعب التي يتحقق بها كمال الإيمان مما يدخل في معاني الإحسان، فيعين لنا هذا الحديث المجالات الفعلية لحركة المؤمن وتقلبه في شعب الإيمان، وهو باب واسع للبذل والعطاء والرقي في معاملة الخلق والخلاق، أعلاه التحقق بمعني لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذي عن الطريق