ما زلنا نتحدث عن الإنسانية قبل التدين..
مرّ معنا وصف من خلال سورة الرحمن لمقصود الإنسانية، ولصلة الإنسانية بالتدين أوصلنا إلى حاجة الإنسان إلى القيَم والأخلاق، فالأخلاق والقِيَم تنبع من إنسانية الإنسان.
وتسترشد بنور الوحى السماوى لتكون منطلق تصرفات هذا الإنسان كى تضبط رغباته، سواء البهيمية من الطعام والشراب والجنس أو الرغبات السَبُوعِيَّة من التسلّط والقوة والتجبّر والتحكم والانتقام والبطش، فمهمة الأخلاق والقيم أن تتناول تلك الشهوات بميزان دقيق ضابط يجعلها ترتقى بالإنسان وبالكون وألا تتحوّل إلى وسيلة للقضاء على إنسانية الإنسان أولًا، وبالتالى القضاء على تدينه؛ ومن ثم إفساد وتخريب الكون الذى يعيش فيه الإنسان.
لكن ما الذى يضبط هذه القِيَم ويحدد منظومة الأخلاق، التى يتصرف الإنسان من خلالها؟
- إذا كانت القيم هى التى توجه سلوك الأفراد وأحكامهم واتجاهاتهم فيما يتصل بما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه من أشكال السلوك فى ضوء ما يضعه المجتمع من قواعد ومعايير؛ فما الذى يضمن ارتقاء وعدم تضارب تلك القيم؟
- الأصل أن الإنسان يولد على الفطرة أى تكون لديه هذه القِيَم الإنسانية ( فى أصلها الإيمانى) فى تعامله مع رغباته وشهواته.
إذا أراد الرضيع الطعام صاح وصرخ.. فتستجيب له أمه بضمه إلى صدرها.. ليرسخ فى وعيه منذ الطفولة أن يعلن عن حاجاته بالصراخ ليتفاعل معه العالم المحيط، إلا أن حكمة الله تعالى جعلت تغذية هذا الإنسان الجسدية متصلة بتغذية إنسانيته.
كذلك الحال بصدد إشباع الرغبة الجنسية، التى ترتبط فيها دلالة الاشتهاء بمعانى راقية من السكن والمودة والرحمة، متى تناولها الإنسان على ما يجب وكما يجب، وجرى بها على النحو الذى لأجله خلق.. وضابطها قوله صلى الله عليه وسلم خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى
فإذا غابت تلك المعانى واختل الميزان وانفلت زمام شهوة الطعام والشراب ولو بطلب التنوع والإسراف اختلت الإنسانية، وسارع التدمير لكل مقدرات الطبيعة.
كذلك إذا انفلتت شهوات الرغبات الجنسية عن الضوابط الشرعية وإذا ضيّع الإنسان القِيَم والآداب والهدى النبوى أصبحت هناك فوضى.
لهذا نجد اليوم أن الضيق والنفور من الإشباع الطبيعى للرغبات الجسدية أفرز صورًا مختلفة من العلاقات كلها مخالفة للإنسانية والآدمية، ظهرت من عدم وجود ضوابط لهذه الحاجة.
لهذا جاءت حكمة ضبط الرغبات
لأن الرغبات إذا انطلقت بغير ضوابط تجور على القيم وتضر بإنسانية الإنسان
بغير وجود ميزان تتحوّل الرغبات من وسيلة لارتقاء الإنسان إلى وسيلة لهدم الإنسان
لكن ماهو ضابط القِيَم؟
- هناك من يقول الدين.. وهناك من يقول الإنسانية هى التى تحفظ القيم والأخلاق
يقول سيدنا صلى الله علية وسلم النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِى الإِسْلاَمِ إِذَا فَقِهُوا، بمعنى أن هناك خير فى أناس من الكفار وأن قيم الخيرية من أصل الفطرة والقيم الإنسانية..
ففى الحديث برهان على التفاوت الفطرى فى الطباع الخلقية وغيرها، وأن خيار الناس فى التكوين الفطرى هم أكرمهم خلقًا، وكذلك فى حديث حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ إبانة لحقيقة من حقائق التكوين الأخلاقى الفطرى فى الناس، وهذه الحقيقة تثبت أن الله أنزل خلق الأمانة فى أصل القلوب، إذ الجذر أعمق شىء فيها، وهو الذى يغذى عواطفها وانفعالاتها.
هل معنى ذلك أنه يمكن للإنسان بغير حاجة إلى الدين أن يرتقى بخُلقه وإنسانيته إلى درجة تؤثر على الكون المحيط به يُحكم بها عمارة الأرض يرتقى بتحويل إنسانية الفرد إلى إنسانية أمّة؟
- وللحديث بقية بإذن الله عزّ وجل