الحبيب علي الجفري يكتب: الرياء ٤/ ١٠/ ٢٠٠٨ في البداية أسألك – تعقيباً علي حديث الأمس – هل فكرت في كيفية خلاص قلبك من الكِبر؟ هل تنبهت إلي بعض الأعمال، التي يمكن أن تساعدك علي التحقق بالتواضع؟ كم لقيت من الناس فابتدأتهم أنت بالسلام؟
كم مرة فكرت في أن تنظف المسجد القريب من دارك؟ لأن هذا كله سير إلي الله وتنقية للقلوب من أمراضها، أقول لك ليست المسألة في المكان الذي ستنظفه، ولكن لأن فيها تنظيفاً لقلبك أنت، هل شاركت أهل بيتك وخففت عنهم بالتنظيف؟ إذا كنت تجد من نفسك شيئاً من الممانعة في أن تشارك في نظافة بيتك فأنت في مشكلة كبيرة.
لا تقل إن هذا لا يتناسب مع الرجولة، فسيد الرجال كان – كما في حديث السيدة عائشة أم المؤمنين – «يخْصِفُ نَعْلَهُ وَيخِيطُ ثَوْبَهُ وَيعْمَلُ فِي بَيتِهِ كَمَا يعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيتِه» (مسند أحمد ٤٢/٢٠٩ برقم ٢٥٣٤١)، و«كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصلاَّةَُ قَامَ إِلَي الصلاَّةِ» (البخاري باب كيف يكون الرجل في أهله ٥/ ٢٢٤٥ برقم ٥٦٩٢).
فهذا تهذيب للنفس، «وعنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيءٌ، فَقَالَتْ : يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيكَ حَاجَةً فَقَالَ : يا أُمَّ فُلاَنٍ انْظُرِي أَي السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّي أَقْضِي لَكِ حَاجَتَكِ، فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّي فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا» (صحيح مسلم كتاب الفضائل باب قرب النبي من الناس وتبركهم به ٧/٧٩ برقم ٦١٨٩)، فهذا نبيك وهذا قدوتك، وهذا هو حال السائر إلي الله تعالي.
لكن ما علاقة ذلك كله بموضوعنا اليوم؟
إن في مجاهدتك نفسك من الكبر تطهيراً لقلبك من نقطة ضعف ومرض آخر وهو الرياء، فالجامع بين الكبر والرياء هو طلب حب المنزلة والمكانة عند الناس، إذ يري المتكبر ظاهراً لنفسه فضلاً عليهم، إلا أن حقيقة انشغاله بهم – وإن كان في صورة كبر أو تعالي – هو ضعف وخضوع، لأنه أصبح مرتهناً بهم، إن هم عظموه وأشعروه بالمكانة التي يطلبها أقبل وسعد، فأصبح محتاجاً إليهم حال رضاه وإقباله.
وإن هم لم يعاملوه بما يتوقعه من الاهتمام، غضب وتأثر وأخذه ما يأخذ الناس من الغضب والصياح وعدم السكوت علي الإهانة، بالرغم من أنه هو الذي أهان نفسه، بمجرد أن جعل قيمته وكرامته مرتبطة بتصرفات الناس وأفعالهم، ولو جعل عزته وكرامته مرهونة بحاله مع الله – لا مع معاملة الناس له – لصان نفسه وأكرمها.
كذلك الرياء ينبع من ذات المشكلة، فالرياء من الرؤية والسمعة من السماع، أي من انشغال الإنسان برؤية والتفات الناس له وسماعه لما يقولون، فالمتكبر أضعف نفسه للناس، ومهد لسقوطها في نقطة ضعف أخري، سميت – لخطورتها ودقتها – بالشرك الأصغر والخفي.
لأن المرائي هو الذي يصرف العبادة عن وجهة الله إلي وجهة الناس، ويجعل مقصوده من العبادة ثناء الناس وتقديرهم واحترامهم له وإقبالهم عليه، ومن ثم فقد جعل مع الله شريكاً في إرادة العبادة، فأشرك طلب رضوان الخلق مع طلب رضوان الخالق، ولهذا سمي الشرك الخفي.
فما دمت تريد أن يحترمك الناس ويجلونك، فتوقع أن تدفع ثمناً غالياً من أرقي ما تملك وأعظم ما تقدم في هذا الوجود وهي عبادتك لله، فتصرف جزءاً منها إلي الناس، فلأنك مشغول بالناس تتوقع إذا تصدقت أن يمدحوك بالكرم والإحسان، وإذا تكلمت أن يثنوا علي وعظك وحديثك، وإذا صليت أن يتناقلوا أخبار خشوعك وحضورك مع الله، فإذا كان هذا في العبادات التي يتقرب بها إلي الله، ألا تتفق معي أن هذا ثمن غال لا ينبغي أن يدفع مقابل طلب حب المنزلة في قلوب البشر؟
أقول لك: أحبب الناس واطلب لهم الخير وأحبب محبة الناس لك في الله، لكن لا تطلب المكانة لدي الخلق، فالفرق بينهما كبير ودقيق، فطلب حب المنزلة في قلوب الناس هو الذي يورث الرياء واهتزاز المنزلة لدي الخالق.
والمسألة لها قسمة ثابتة، أتريد المنزلة عنده أم عندهم؟ لأن التفات قلبك إليهم طلباً للمنزلة يضعف منزلتك عنده، ولأنك مريد لله أزف إليك بشارة تهون عليك الاختيار: أصدق في طلب المنزلة عنده يجعل لك منزلة عندهم، لكن انتبه لا تقول أنا سأخلص مع الله والله سيجعل الناس يحبونني، فالمسألة مختلفة والقضية منفكة.
وقد جرت سنة الله أنك عندما تصدق مع الله في المعاملة ولا تطلب سواه، فإن الأمر إليه إن شاء جمع القلوب علي محبتك، فكم من الصالحين من أحبهم الناس واحتفوا بهم وعرفوا فضلهم، وكذلك كم من الصالحين من أساء الناس إليهم وعذبوهم وقتلوهم.
فمحبة الناس ليست هي المطلب ولا المقصد، لكن أصدق مع الله والحق يجمع لك خيري الدنيا والآخرة إن شاء، فما الذي تعده ذا قيمة عندك لو أثني عليك جميع الخلائق ونظروا إليك بعين الإجلال والتقدير، وأنت لست بشيء عند الله عز وجل؟ وما قيمة أن تبيت قرير العين، بسبب ثناء الناس عليك وأنت لا تدري أراض هو عنك أم ساخط؟
فلو سجد لك جميع الناس هل يزيدونك شيئاً أو يرفعونك مكانة أو يضيفون إلي صحيفة أعمالك يوم العرض علي الله؟ وإذا وقفت بين يدي الله تعالي سيظهر المحك عند الذي لا تخفي عليه خافية، وإذا سألك: عبدي ماذا عملت؟ أفتجرؤ علي الكذب وتقول صليت لك وهو يعلم أنك كنت لحظتها مشغولاً بعين فلان ونظره؟ أو في غيرها من أعمال الصدقة والحج أو البر والخير؟
هناك حديث يخيفني- كما أخاف كثيراً ممن كانوا قبلنا، «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يقْضَي فِيهِ يوْمَ الْقِيامَةِ ثَلاَثَةُ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: وَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّي قُتِلْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِيقَالَ هُوَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَيسْحَبُ عَلَي وَجْهِهِ حَتَّي أُلْقِي فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِي بِهِ لِيعَرِّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيقَالَ هُوَ عَالِمٌ فَقَدْ قِيلَ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَيسْحَبُ عَلَي وَجْهِهِ حَتَّي أُلْقِي فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ ينْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ لِيقَالَ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَيسْحَبُ عَلَي وَجْهِهِ حَتَّي أُلْقِي فِي النَّارِ”(مسند أحمد ١٤/٢٩ برقم ٨٢٧٧).
فهذا الحديث أقض مضاجع الصالحين، لأن فيه نوعاً من المواجهة بحقيقة الأمر، فالحق لا يضيع إيمان المؤمنين ولا عملهم، لكنه لا يقبل أن يعامله العبد بالخديعة والاستهزاء، ولهذا جاء أن مرض الرياء من أشد وأخطر الأمراض التي تصيب القلوب، والذي يحتاج منك إلي جهد في كشفه وفي علاجه.
ذلك لأن الرياء له أنواع ودرجات، منها الظاهر الجلي كأن يعمل الإنسان عملاً ثم ينتظر ثناء الناس عليه، ومنه المتوسط كأن تقوم تصلي في جوف الليل تهجداً فيخطر في بالك لو أن فلاناً رآني الآن، ومنه الدقيق الخفي كأن يدخل عليك أحد في المثال السابق ويراك وأنت تصلي فتسر بذلك، وكلما ارتقيت في الصلة بالله تكشفت لك من نفسك أنواع أكثر دقة وخطورة من الرياء.