تكررت مسألة نشر صحف أوروبية رسومات كارتونية مسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام، وتعددت واختلفت الرؤي حولها، وإن تذرع المدافعون عنها بأنها من قبيل حرية التعبير عن الرأي، وأن مجتمعاتهم تجعل من الحرية قيمة عليا لا يجوز التنازل عنها، وأنها تمثل خطاً أخيراً في الدفاع عن جوهر الحضارة الأوروبية ككل، ومن ثم فإن النقاش والحوار حول تلك المسائل وغيرها من الأمور يجب أن يبتدئ بتجليه وتعيين مفهوم الحرية ذاته وتحديد أبعاده والتمييز بين جوانب الإطلاق والنسبية في المفهوم والممارسة.
فهل كلمة الحرية تلك التي تدل علي الغريزة الفطرية في الإنسان، والتي تتعاطف معها المشاعر وتتجاوب، تعني في أبسط معانيها اختفاء القيود علي النشاط الفردي والجماعي؟، وهل الحرية بهذا المعني هي مرادف القدرة علي التعبير والحركة دون ضوابط؟ ألا يمكننا الحديث عن نوع من الحرية المنضبطة أو الحرية الإيجابية، التي تشكل مقدمة منهجية ضرورية للحوار والتعارف الحضاري بين الجماعات والشعوب؟
إن الحرية في معانيها تعني إقامة توازن معين أساسه التجانس بين ما يشعر به الإنسان وبين ما يفعله أو يعلن ويعبر عنه، فالتجانس ما بين الشعور الداخلي وبين التعبير عن ذلك الشعور هو الذي يعنينا بالحديث عن الحرية باعتبارها نوعاً من الإعلان عن حقيقة الوجود البشري، تسمية الأشياء بمسمياتها، الوضوح والصراحة والمواجهة.
لقد رسخ الإسلام مفهوماً راقياً إيجابياً للحرية نحن في حاجة إليه
ولقد رسخ الإسلام مفهوماً راقياً إيجابياً للحرية نحن في حاجة إليه، ابتداء من الإطار الكلي الحاكم للحركة الإنسانية والجامع بين الاستخلاف والعبادة بالمعني الواسع. فإذا أخذنا بالمفاهيم الأساسية للاستخلاف بكل ما تحمله الكلمة من معاني القوة والإرادة والمسؤولية عن إعمار الكون، وبالمعني الجامع للعبادة الذي لا ينحصر في أداء النسك أو الصور التعبدية التي كلفنا أو ندبنا الله تعالي إليها، ندرك مدي أصالة مفهوم الحرية في الإسلام.
تأمل آيات استخلاف الإنسان في الأرض، وتخوف الملائكة من أن يترتب علي وجود الإنسان في الأرض الفساد وسفك الدماء، لتعرف ما هي الحكمة من اختيار الإنسان للخلافة ابتداء، إذ قال لهم رب العزة: «إني أعلم ما لا تعلمون»، فمعني إني أعلم ما لا تعلمون ليس نافياً لمفهوم الملائكة أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، لكنه مقرر لحقيقة جوهرية وهي أن وجود الإنسان وخلافته في الأرض ليس المقصود بها الأرض، وإنما المقصود بها الإنسان. فلو كان المقصود بها الأرض لاقتضي حسن التدبير الإلهي أن يجعل فيها من يحسنون التصرف فيها فلا يفسدون الأرض ولا يسعون فيها فساداً.
عمارة الإنسان الأرض ليست غاية ذاتية وإنما هي وسيلة إلي الغاية وهي تحقق الإنسان بعبوديته لله تعالى
بتعبير آخر فإن عمارة الإنسان الأرض ليست غاية ذاتية وإنما هي وسيلة إلي الغاية وهي تحقق الإنسان بعبوديته لله تعالي، ولهذا لم يمنع الله تعالي وجود صور ومظاهر عمارة الأرض عند من تمرد علي أوامره وحتي عند من ينكر وجود الله أصلاً. فحتي من ينكر وجود الله تعالي هو صاحب صورة خلافة عن الله تعالي، لكن حقيقة الخلافة ممتنعة عنه، ووجه امتناعها عنه مقصودها الذي من ورائها، وهو عمارة الأرض بمقتضي إرادة خالق السماء والأرض وتوجيهاته وأوامره.
إن النتيجة التي وصل إليها الإنسان في عمارته للأرض هي عمارة صورية تكتمل بجوانب التسخير لكل مقدرات الكون وإمكاناته، لكنها ظلت خلافة مبتورة ناقصة، بمعني أن الإنسان قد فعل كل ما يريد لكنه لم يجد السعادة والحرية والراحة التي ينشدها من السعي في الأرض وإعمارها وزخرفها، والذي يراجع الإحصائيات يجد أن أعلي نسبة انتحار في العالم توجد في الدول التي سبقت إلي الحريات والإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية في إدارة الأرض.
مجمل القول أن الإنسان قد أقام صورة الخلافة ولم يرتبط بمقصودها، فليس المقصود من الخلافة ذات عمارة الأرض، وإنما المقصود من الخلافة حسن عمارة الأرض كما يأمرنا خالق السموات والأرض وطلباً لمرضاته، فإذا أنت غرست شجرة فذلك لأنك تعلم أن لك فيها أجراً وأن كل من أكل منها من إنسان أو بهيمة أو طير لك فيه الأجر، فأنت هنا قد غرست الشجرة بمفهوم رباني هو سر خلافتك في الأرض، أي أنك عمرت الأرض لتصل إلي الذي أمرك أن تعمرها وليس لذات عمارتها.
ومن ثم فإن تصور الإسلام للحرية لا ينطلق من طبيعة للإنسان تنبثق عنها بذاتها حقوق وحريات، وإنما تستمد الحرية مفهومها وصفاتها التكوينية والتجريبية وضوابطها من الحقيقة التي ينطلق باسمها كل شيء في الكون. إن الله خالق هذا الكون وهو أعلم بمخلوقاته قد خص الإنسان من دون الكائنات بالاستخلاف بما استحفظ عليه من أمانة العقل والإرادة والحرية والمسؤولية والتي تدور حولها آيات التكريم والاستخلاف والتسخير.
والحرية بالمعني التكويني هي إباحة واختيار، فقد اختصنا الله تعالي بتحمل القدرة علي فعل الخير وفعل الشر «وهديناه النجدين»، فالحرية هي قدر الإنسان الذي تميز عن كل مخلوق سواه فسجد لله طوعاً، إذ لم يجعل الله في تركيبه ما يجبره علي الإيمان ولا سمح لغيره أن يجبره علي الإيمان، فالحرية هنا ليست غاية بل وسيلة لعبادة الله تعالي، والمؤمن يعبد الله تعالي بدافع المحبة والإجلال واستشعار نعم الله عليه، الأمر الذي يجعل الحرية الوسيلة والثمرة، فالحرية طريق لعبادة الله وهي كدح لا ينقطع في معراج الإنسان إلي التخلق بأخلاق الله والارتقاء والكمال، وكلما ازداد إخلاصاً في العبودية للخالق ازداد تحرراً من كل مخلوق.
الحرية هي شرف الاختيار الذي خول الله تعالي الإنسان أن يقوم به
حتي لتغدو الحرية هنا واجبات مقدسة لا حق للإنسان أن يفرط أو يتهاون أو يتنازل عنها، لأنها ليست ملكاً له وهو مطالب بالتصرف فيها وفقاً لإرادة المالك، فتصبح محافظة الإنسان علي حياته وتوفير مقومات بقائها ليس حقاً للإنسان أو حرية يستطيع أن يفرط فيها بالانتحار أو التجويع، وقس علي ذلك سائر الحريات والحقوق، الأمر الذي يجعلها حريات مقدسة وأمانة في عنق كل المستخلفين يحاسبون عن الذود عنها وإقرارها في دنيا الناس وواجباً دينياً يتعين القيام به لكل البشرية دون فوارق بين عرق وجنس ولون.
فالحرية إذن هي شرف الاختيار الذي خول الله تعالي الإنسان أن يقوم به، وهي ليست ذاتية في الإنسان، بمعني أن الإنسان لم ينل حريته بإرادته، وإنما نال الحرية باختيار وتكريم من الله تعالي حين أسدي إليه أمانة الحرية. فالإنسان حر في مجال معين، «أعطي أمانة الحرية فيه والاختيار ليقوم بالمهمة التي مر ذكرها وهي العبادة لله عز وجل ومن ثم الخلافة في الأرض».