انتهينا في المقال السابق إلي أن مفهوم العدل يستغرق مفهوم الحرية ويستوعبه، وأن العدل هو الذي يضفي علي الحرية قيمتها وصدقها وفاعليتها، وأنها بدون العدالة تختل معاييرها وتفقد توازنها وتنحاز إلي فئة أو جماعة علي حساب غيرها من الجماعات، أو تخون ما أؤتمنت عليه من قيم ومبادئ
وهذا هو محور الخلاف بين الثقافتين الليبرالية الغربية والإسلامية، لأن الإعلاء من شأن الحرية، وجعلها القيمة العليا في الحضارة الليبرالية يجعل جميع القيم الأخري، ومنها العدالة، تابعة لها تتشكل بها علي نحو يقودها إلي التضحية باعتبارات العدالة حين التعارض، بما يترتب علي ذلك من مساوئ وشرور، في جميع المجالات الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من صراع الطبقات، وهضم حقوق الأقليات، وظلم رؤوس الأموال الصغيرة والعمال الفقراء، وازدراء الأديان باسم الحرية في القول والفعل.
علي حين أن إعلاء قيمة العدالة في الثقافة الإسلامية واصطباغ جميع القيم الأخري، ومنها الحرية، بها ودخولها ضمن بوتقتها يحقق لتلك القيم وجودها الصحيح والفاعل مثلما يكرس التوازن الذي تفرضه العدالة في علاقة الإنسان بالذات وبالآخر، فالفعل الحر لا يشترط أن يكون عادلاً، ولا يترتب عنه ما يحقق العدل، لكن الفعل العادل فعل يحقق الحرية بمعناها الصحيح الإيجابي المنضبط.
بل هناك ما هو اسمي وأرقي في الثقافة الإسلامية في تحديد ماهية الحقوق والحريات والعلاقة المتبادلة بينها، إذ لا يكفي في عقيدتنا أن نقول إن حريتي تقف عندما تبدأ حريات الآخرين، أو أنني حر أفعل ما أشاء، مادامت لا أعتدي علي حق الآخرين، فهذه العلاقات المتقابلة بين الأنا والآخر، حقي وحق الغير، ترتقي من خلال المعيار الحسابي للعدالة وصولاً إلي مرتبة الإحسان علي نحو من التسامي محوره إيثار الغير والإقرار بحقوقه وحرياته، بل وجعل الإقرار بذلك معياراً للإيمان، كما في الحديث الذي أورده البخاري عن أنس بن مالك: «لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فمعيار الحق هنا فيما يحبه الإنسان هو استعداده لحب ذلك لغيره، فإن أحبه لنفسه فقط كان أنانياً متجاوزاً لحدود الإيمان معتدياً علي حقوق الغير.
لذلك فإن وضع القيم الإنسانية علي معيار هذا الحديث يمثل جوهراً صادقاً لعلاقة الإنسان بالذات وبالآخر، وتعبيراً عن حقيقة مفهوم الحرية في الإسلام، فالمحبة سلوك إيجابي لا يقتصر علي مجرد المجاملات العادية ولا مراعاة الشعور ولا حتي التعاطف، وإنما ينصرف إلي الميل القلبي بالحب الذي يصل في درجته أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، والمحبة سلوك ظاهره التساوي وحقيقته التفضيل، لأن كل واحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه فقد دخل في جملة المفضولين، لذا روي عن الفضيل بن عياض أنه قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك، فما أديت لله النصيحة، كيف وأنت تود أنهم دونك؟
إن الفلسفات المعاصرة إذ حصرت الإنسان في ضيق دائرة أنانيته ومنفعته، وسعيه إلي تحقيق مصالحة الشخصية ما يحقق الصالح العام، قد سلبت منه بعده الإنساني الكوني وعزلته في إطار محبته لنفسه فقط دون أن تكون لديه محبة للآخرين أو شعور بمشاعرهم، وبما قاد إلي كراهية الآخرين وحسدهم وبغضهم والحقد عليهم، وسيادة الإنحطاط والقبح الأخلاقي والجمالي في كل نواحي ومجالات الحياة.
ويمكننا تتبع مظاهر القبح الأخلاقي والجمالي والاجتماعي في كل ما نراه محيطاً بنا من أشياء وأفكار ومؤسسات، سواء في مسوخ اللباس والزي والتقاليع الشاذة للمظهر، أو في اللوحات المفترض أنها ترجمة للجمال فتصير عنواناً للقبح والرذيلة، أو حتي في لعب الأطفال التي أصبحت عنواناً للبشاعة وترجمة لمعاني القسوة والوحشية الشديدة في السلوك والتعامل، وغيرها من مظاهر ليس لها من أصل سوي سيادة القبح والبغضاء بين الناس، في الفكر والإحساس والسلوك.
ناهيك عن الانغلاق والوحشية في التعامل مع الآخر المختلف في الأصل أو الجنس أو الفكرة أو السلوك، مما يؤكد أن سيادة التطرف الفكري والديني، وعدم قبول منطق التعددية والاختلاف، والتعامل الوحشي مع كل المخلوقات بالإبادة وسوء الاستعمال، إنما هو ترجمة صادقة لسيادة الكراهية والأنانية بين الناس.
ولا شك أن انطلاق الإنسان عن دائرة أنانيته الضيقة إلي دائرة أشمل وأعم، وخروج الإنسان من إطار محبته لنفسه إلي محبة الآخرين، إنما هو ارتقاء خلقي كريم، واستعادة لبعده الكوني الأصيل، وأصل ترجع إليه مكارم أخلاقية كثيرة، كالتعاون وإرادة الخير لكل الناس ومشاركتهم في السراء والضراء، وأن يحب لهم مثلما يحب لنفسه، وأن يعاملهم بمثل ما يحب أن يعاملوه به، فضلاً عن مشاركة الكون المسخر في عبادة الله تعالي.
ويمكننا أن نتصور حجم ودرجة التغيير في الفكر والقول والسلوك لو ساد منهج المحبة بين الناس، فالثقافة التي تتخذ من محبة الآخرين منطلقاً للتعامل معهم، لابد أن تعبر عن ذلك المنطلق في كل مجالات الحياة وأبعادها. ولذلك كله ولأهمية سيادة المحبة كمنطلق للتعامل مع الآخر، فقد ارتقي بها الإسلام وجعل محبة الآخرين عنصراً من عناصر الإيمان أو ثمرة من ثمراته، يقترن بها الإحساس بطعم و«حلاوة الإيمان».