قد يستنتج البعض أنه يمكن للإنسانية أن تحيا بقيم وبمبادئ وبأعراف إنسانية دون حاجة إلى دين؛ بدليل ما نراه من إنسانية وآدمية فى الدول التى نعتبرها متقدمة، لكن أغلب تلك الدول قبلت أن تتنازل عن أسمى قيمها الليبرالية، مقابل الحصول على الأمان عندما شعرت أن هناك ما يتهدد أمانها أو حتى ثقافتها وأسلوب حياتها، فلم يعد كافيًا مجرد الحديث عن ضمير أو عن أعراف ولا عن قوانين إنسانية ضابطة، لأن مسألة الأعراف تلك- إن لم ترتبط بأصل ثابت خارج عن ذات الأفراد والجماعات والشعوب- تتغير بتغير الأزمنة والثقافات والأمكنة، مما يطرح التساؤل حول ما هو المعيار؟ كيف يمكن أن نحافظ على إنسانيتنا ونعمل على ترقيتها والسمو بها؟
لا شك أن هناك مسلمات وثوابت من أمهات الأخلاق- قبل أن تنتكس الفطرة- كاستحسان الصدق والأمانة والعدل واستهجان نقيضها من الكذب والخيانة والظلم، وهى أمور ترتبط بالأحكام الشرعية القطعية التى ليس فيها مجال كبير للاجتهاد وتعد قليلة قياسًا على الأحكام الاجتهادية الظنية.
هذه الأحكام المتعلقة بثوابت القيم الإنسانية تتصل بالكليات الخمس التى تمثل مقاصد الشريعة وتتغيا «حفظ» وحماية الإنسانية فى مجالات الدين والنفس والعرض والعقل والمال.
إلا أن ما يرتقى بالإنسانية هو معنى من مجاهدة النفس بناء على تلك القيم الثابتة ومن الأذواق الروحية القلبية التى بها يكون الإنسان إنسانًا.
ذلك المعنى الذى أدخل امرأة الجنة على الرغم من انحرافها الظاهر لأنها سقت كلبًا يطيف بركية يكاد يقتله العطش، وأدخل أخرى النار فى هرة حبستها فلم تطعمها ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض، فهنا الارتباط المقصود لظاهر الأحكام بالمعانى القلبية فى لحظة تيقظ أو غفلة الرحمة الإنسانية.
هذا المعنى موجود فى تفسير بعض العارفين قوله تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ» بأنها التقاء بحر الشريعة من افعل ولا تفعل ببحر الحقيقة من المعانى الروحية والقلبية، وأن المقصود بالبرزخ هو إنسان مستخلف فى أرض «وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ».
كيف يمكن أن تُطبق هذه المعانى فى عالم الأرض؟
نحن بحاجة إلى نموذج إنسانى نرى فيه هذا الكمال؛ لهذا أرسل الله الرسل الكرام لنرى فيهم أنموذج الكمال الإنسانى الذى يجمع بين القيم الأخلاق والاتصال بالروح الأقدس العالى، ورغبات الإنسان وعمارة الكون الذى يعيش فيه.
ثم جاء الحبيب- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- مَجْمَعًا لمظاهر كمال الإنسانية، جاء يعلمنا أن الإنسانية قبل التدين عندما أقر صفات راقية فى بشر لم يكونوا على دين الإسلام، فأكرم ابنة حاتم الطائى لأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.. يفك العانى ويشبع الجائع ويكسو العارى ويقرى الضيف ويطعم الطعام ويفشى السلام ولم يرد طالب حاجة قط.
وقال: «لو كان المطعم بن عدى حيًا، ثم كلمنى فى هؤلاء (أسارى بدر) لتركتهم له»، إكراما له وقبولا لشفاعته، فإنه كان ممن قام فى نقض صحيفة المقاطعة بمكة وأجار الرسول عليه الصلاة والسلام عند رجوعه من الطائف، بل وسمح لشاعره حسان بن ثابت برثاء الرجل الذى مات على كفره بقصيدة مطلعها:
أَيَا عَيْنُ فَابْكِى سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِى… بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِى الدّمَا
ما هو المعيار؟
قلنا المعيار الشرعى السماوى الذى يأتى بالثوابت التى جاء بها الحق -سبحانه وتعالى- وعلّمنا إياها، وهى متصلة بهذه الفطرة، ثم البحث من وراء المعانى القلبية التى فيها.
ما هو المعيار الذى نرى به القيم من حيث التطبيق العملى فنعرفها؟
هذا ما سيأتى فى المقال القادم الإشارة إليه بإذن الله تعالى.