في معرفة الصحابة لأبي نعيم عن الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، قال: «لما أمر الله تعالي نبيه عليه السلام بأن يعرض نفسه علي قبائل العرب خرج، وأنا معه وأبو بكر رضي الله عنه، فانتهينا إلي مجلس عليه السكينة والوقار، ولهم أقدار وهيئات، فقال لهم أبو بكر : ممن القوم ؟
قالوا: نحن بنو شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلي رسول الله، صلي الله عليه وسلم، فقال له : بأبي أنت وأمي، ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم، وكان في القوم مفروق بن عمرو، والمثني بن حارثة، وهانئ بن قبيصة، والنعمان بن شريك، فتلا عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم…) (الأنعام:١٥١)، فقال مفروق: ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان…) (النحل٩٠)، فقال مفروق : دعوت والله يا قرشي إلي مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك».
ذلك لأن الله تعالي يأمر بالعدل الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوي، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغني والفقر، والقوة والضعف . إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع.
وإلي جوار العدل ويليه الإحسان يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثاراً لود القلوب، وشفاء لغل الصدور . ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحاً أو يكسب فضلاً . والإحسان أوسع مدلولاً، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعاً .
ويرى الإمام الغزالي أن الله تعالي قد أمر بالعدل والإحسان جميعاً، وأن العدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجارة مجري رأس المال. والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجري الربح، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة، فلا ينبغي للمسلم أن يقتصر علي العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان.
ويدل لفظ الإحسان علي معان ثلاثة وردت في القرآن والسنة: الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( كما في الحديث المتفق عليه)، والإحسان إلي الناس كالوالدين والأقربين واليتامي والمساكين وسائر الخلق، وإحسان العمل وإتقانه، ومن مجموع تلك الدلالات يمكننا تحديد مكانة الإحسان في سلم القيم والأخلاقيات في علاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء.
فبداية الإحسان ومنتهاه وغايته الارتقاء بالعبد في مراتب مراقبة الله تعالي وشهوده في كل أعماله وسلوكه، درجة ثالثة بعد الإسلام والإيمان وفوقهما وبناء عليهما لا تحليقا، فلا إيمان بلا إسلام، ولا إحسان بلا إيمان، إحسان يراه المؤمن في كل أحواله وفي العبادة بالمعني الشامل الذي لا يقصرها علي النسك والنوافل، بل لقد وردت للحديث روايات أخري «الإحسان: أن تعمل لله» (مسند أحمد وصحيح ابن حبان)، وفي أخري «الإحسان: أن تخشي الله كأنك تراه» (صحيح مسلم)، مما يجعل من الإحسان سلوكاً معتاداً من المؤمنين في كل أعمالهم وأحوالهم.
ولك أن تتأمل مدي أهمية التربية علي الإحسان من ترتيب حادثة تلفت النظر وتحلق بالخيال وتخاطب العقل والوجدان، وهي نزول جبريل، عليه السلام، لمدارسة الرسول عليه الصلاة والسلام بين أصحابه في لوحة خالدة للتعليم والتربية يسأل الملك ويجيب الرسول، عليه الصلاة والسلام، فيصدقه فيعجب الصحابة، ليقرر لهم أن هذا هو جبريل جاء يعلم الناس دينهم.
ويؤكد ذلك المعني الراقي للإحسان ويكمله قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (صحيح مسلم وأصحاب السنن)، فالإحسان هنا مرادف لكلمة الإتقان، وقد أراد الرسول صلي الله عليه وسلم أن يزرع بذلك الرحمة في قلب المسلم ويكسبه عادة الإتقان في العمل حتي ولو لم تكن للعمل آثار اجتماعية كالذبح الذي ينتهي بإتمام العمل كيفما كان.
الأمر الذي يشكل علاقة متداخلة بين الإتقان والإحسان، غير أن الإتقان عمل يتعلق بالمهارات التي يكتسبها الإنسان، بينما الإحسان قوة داخلية تتربي في كيان المسلم، وتتعلق في ضميره وتترجم إلي مهارة يدوية أيضاً، فالإحسان أشمل وأعم دلالة من الإتقان، ولذلك كان هو المصطلح الذي ركز عليه القرآن والسنة، وقد وردت كلمة الإحسان بمشتقاتها المختلفة مرات كثيرة في القرآن الكريم، منها ما ورد بصيغة المصدر اثنتي عشرة مرة، بينما وردت كلمة المحسنين ثلاثاً وثلاثين مرة، وبصيغ اسم الفاعل أربع مرات، واللافت للنظر أنها لم ترد بصيغة الأمر إلا مرة واحدة للجماعة: «…وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» (البقرة ١٩٥).
والإتقان في المجتمع المسلم ظاهرة سلوكية يجب أن تلازم المسلم في حياته،والمجتمع في تفاعله وإنتاجه، فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحاً؛ بل لا بد أن يكون صحيحاً ومتقناً، ليس ذلك فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلي رقي الجنس البشري، وعليه تقوم الحضارات، ثم هو قبل ذلك كله هدف من أهداف الدين يسمو به المسلم ويرقي به في مرضاة الله والإخلاص له …لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه… وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه…. فصفة الإتقان وصف الله بها نفسه لتنقل إلي عباده «..صنع الله الذي أتقن كل شيء…» (النمل٨٨).
كذلك يمثل الإحسان – من خلال قوله تعالي :(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَي وَالْيتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَي وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء ٣٦)، انفتاحاً علي قطاعات كثيرة في المجتمع، يطالب المسلم بالتعامل معها والتفاعل علي أساس من التقوي والحرص علي الجماعة، حتي يكون الجهد المبذول في سبيل الإحسان إليها ذا قيمة اجتماعية يراعي فيها رضاء المولي عز وجل.