الحديث عن معاملة النبىِّ، صلى الله عليه وسلم، باستيعاب نزعات الشباب وميولهم، يوصلنا إلى استيعابه صلى الله عليه وسلم بخُلُق العفو عمن أساء إليه بسوء سلوك أو تصرف.
فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا الْمَسْجِدَ وعليه بردٌ نَجْرَانِىٌّ غليظ الصَّنِفَةِ، فأتاه أَعْرَابِىٌّ من خلفه فأخذ بجانب رِدَائِهِ حتى أَثَّرَتِ الصَّنِفَةِ فى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مُحَمَّدُ أعطنا من مال الله الذى عندك؛ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم وقال: «مُرُوا لَه».
وجاء َأعْرَابِىٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه فى شىء فقال: يا محمد أعطنى، فإنك لا تعطينى من مالك، ولا من مال أبيك، فأعطاه شيئًا، ثم قال: «أحسنت إليك؟»، قال: لا ولا أجملت، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفّوا، ثم قام فدخل منزله، ثم أرسل إلى الأعرابى فدعاه إلى البيت، فأعطاه شيئًا، فقال: «أرضيت؟»، فقال: لا، ثم أعطاه أيضًا، فقال: «أرضيت؟» فقال: نعم، نرضى، فقال: «إنك جئتنا، فسألتنا، فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفى أنفس المسلمين شىء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدى، حتى يذهب عن صدورهم ما فيها»، قال: نعم. فلما كان الغداة أو العشى جاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ صاحبكم هذا كان جائعًا فسألنا، فأعطيناه، فزعم أنه رضى، أكذلك؟» فقال الأعرابى: أى نعم، فجزاك الله تعالى عن أهل وعشيرة خيرًا. فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: «ألا إنَّ مثلى ومثلكم كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فأتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بينى وبين ناقتى، فأنا أرفق بها، فتوجه لها صاحبها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فجاءت واستناخت، وأنا لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار، فما زلت حتى فعلت ما فعلت».
وذلك أنّ لحظة نفور النفس البشرية يزيدها التهييج شدة؛ وإنما تحتاج إلى التسامى لمفهوم العفو والصفح، لأنه تديُّن يقوم على الإنسانية.
كيف نصل إلى درجات العفو والإحسان؟
يقول تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)؛ فالبداية هى الأخذ بزمام النفس وترويضها على كظم الغيظ، ثم التجاوز عن الخطأ بالمسامحة، والأفضل الإحسان حتى إلى من أساء.
ولهذا يقول النبىُّ صلى الله عليه وسلم: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ». وكما قال السيد المسيح عليه السلام: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُم بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ»، فكلها تعاليم سماوية قائمة على هذا المعنى من إنسانية التعامل مع الإساءة.
يقول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)؛ فالجهل هنا نقيض الحلم لا العلم، أى الإعراض عن السفه والتجاوز فى الخطاب، قال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ).
ولهذا مفهوم العفو والمسامحة أساس فى الإنسانية، وفيه نوع من المجاهدة.
قد تقول: «أنت لا تشعر بما أنا فيه عندما تطالبنى بالمسامحة».
أقول لك: هل مصابك وألمك أشد من مصابه صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه يوم فتح مكة، عندما وقف أمامه صناديد قريش الذين آذوه وآذوا أهل بيته وأصحابه، قال لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ»!
بل علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فيما هو أشد من هذا الأمر فى التعامل مع عَبْداللهِ بْن أُبَىٍّ بْن سَلُولَ رأس المنافقين الذى ما ترك موقفًا ولا حيلة إلا وسعى لإيذاء النبىِّ صلى الله عليه وسلم. فالتعامل هنا يحتاج إلى يقظة وبصيرة، لا تدع لحيل ومكر الليل والنهار أن تنال من صف الأمة، إلا أن الحذر شىء وإقرار القلب على الكراهية والبغضاء شىء آخر.