مرت بنا نماذج من استيعاب النبي ﷺ لأشدّ مواقف سوء السلوك والتصرّف بأخلاق العفو والصفح عن المسىء.
إلا أنّ هناك مواقف تكون الإساءة فيها عن سوء طوية وبقصد الإضرار بالسلم الاجتماعى، بما يستدعى ضرورة الحذر وتدارك النتائج الخطيرة التى يمكن أن تحدث لولا اليقظة والتبصر، مع إدراك الفارق بين اليقظة والحذر هنا وبين إقرار القلب على الكراهية والبغضاء، ولهذا جاء مثال عبد الله ابن أُبىّ بن سلول.
لما هاجر النبىُّ ﷺ إلى يثرب كانت الأوس والخزرج قد اتفقتا على تنصيب عَبْد اللهِ بْن أُبَىٍّ بن سلول ملكًا، حتى أنه خاطب رسول الله ﷺ لما مر على مجلسه بشىء من التطاول: لا تُغَبِّرُوا علينا، إن كان ما تقول حقًا فلا تُؤْذِنَا فى مجالسنا، فقال سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: اعْفُ عنه يا رسول الله وَاصْفَحْ فوالله لقد أعطاك الله الذى أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة أن يُتَوِّجُوهُ».
إلا أنه لم يتوقف عن انتهاز كل موقف لإيقاع الفتنة بين الأوس والخزرج أو بين الأنصار والمهاجرين؛ فضلاً عن التحالف مع اليهود وتحريضه لهم على خيانة العهود؛ بل كان رأس الإفك الذى تولى كِبْرَهُ، لكن النبىَّ ﷺ كان يتعامل معه بإحسان مع حذر وتدارك.
حتى عندما تحدث البعض عن قتله، جاء ابنه عبد الله إلى النبىِّ فقال: «إن أذنت لى فِى قتله قتلته، أخشى أن تأمر بِهِ رجلًا مسلمًا فيقتله، فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل أَبِى يمشى على الأرض حيًّا حتَّى أقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر»، فقال النبىُّ ﷺ: «بل نُحْسِنُ صحبته ونترفق بِهِ ما صحبنا، لا يتحدث النَّاس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه، ولكن برّ أباك، وأحسن صحبته».
فلما مات أَبوه سأل عَبْدُ اللَّه النَّبىَّ: أَعطنى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيه، وَصَلِّ عَليه، وَاسْتَغْفِرْ له، فأعطاه قَمِيصَه، وقال: إِذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِى، فلما أراد أن يصلى عليه جَذَبَهُ عمر وقال: أَليس قد نَهَى اللَّهُ أَنْ تُصَلى على الْمنافقين؟ يا رسول الله أتصلى على عدو الله القائل كَذَا يوم كَذَا والقائل كذا يوم كذا؟ فقال النبىُّ: «يا عمر أخّر عنى، إنى قد خُيّرْت فاخترت؛ قد قيل لى: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ»، فلو أَعْلَمُ أَنّى إنْ زِدْت عَلَى السبعين غُفِرَ لَهُ لَزِدْت»، ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره.
دعونا نقيس هذا الموقف النبوى الشريف بما نعانى منه اليوم فى التعامل مع من يُخطِئ، وكيف نتحول كلنا إلى قضاة وإلى جلادين!
جاء رجل إلى النبىِّ ﷺ فقال: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ فصمت رسول الله ﷺ ثم أعاد عليه الكلام، فلما كان فى الثالثة قال: كل يوم سبعين مرة». فمن ابتلى بخادم سيئ الطباع والخدمة، إما أن يستوعبه إلى أن يستقيم وإما يعطيه أجره وينصرف، لكن لا تجعل إساءة هذا الخادم مسوّغًا لاعتدائك على آدميته، لأن هذا سيذهب بآدميتك أنت.
ابتُلى الإمام مالك بحاكم ظالم آذاه وجلده حتى خُلِعَت كتفه، فلما أراد المنصور أن يقتص له قال: «معاذ الله، والله ما ارتفع منها سوط عن جسمى إلا وأنا أجعله فى حلٍّ من ذلك الوقت لقرابته من رسول الله ﷺ».
بل ينسب اليافعى فى روض الرياحين إلى الإمام النووى أن سارقًا خطف عمامته وهرب، فتبعه وصار يعدو خلفه ويقول: ملكتك إياها قل قبلت، فالأول مشغول بكيف يسرق؛ والثانى مشغول بكيف ينقذ السارق من الهلاك!