يقول الله تعالى “من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا” (الإسراء: 18-19)
تأملوا قوله تعالى “من كان يريد العاجلة” و”من أراد الآخرة” فالكلام هنا عن مفهوم الإرادة وجميع من في الأرض بهذا المعنى مريد: إما مريد الدنيا وإما مريد الآخرة، والله سبحانه وتعالى، ومن ثم فوجودنا وحياتنا ومصيرنا جميعاً في هذه الدنيا مرتبط بما نحن نريد ونتوجه أو نقصد، وقد جعل الله تعالى من مجرد إرادة الدنيا ووجهتها- في حد ذاته ودون ذكر للسعي في تحقيق تلك الإرادة- سبباً في حصول الخسران والعذاب والغضب، ثم جعل تعالى من إرادة الآخرة- مقرونة بالسعي الذي يترتب بالطبع على هذه الإرادة- سبباً للفوز والسعادة.
وهنا يأتي التساؤل حول: هل يكون فيما يطلبه أحدنا ويريده من طيب الطعام واللباس والأثاث ما يدخله ضمن دائرة “إرادة الدنيا” فيكون بذلك متعرضاً لغضب الله تعالى والخسران؟ ثم هل المقصود من “إرادة الآخرة” ألا يكون لنا ثمة نصيب في الدنيا أو صلة بها وبموجوداتها؟ والسؤال المهم هو: أين وجه الذم في إرادة الدنيا؟
إن وجه الذم المقصود هنا في إرادة الدنيا أمران: أولهما تعلق القلب، والثاني انشغال الجسد بما سبق أن تعلق به القلب. فالأمر يعني أن يعيش الإنسان وليس له ثمة هدف ولا قصد سوى التمتع في هذه الدنيا إلى درجة أن يعيش لها، ثم ما يترتب بداهة على ذلك من صرف الوقت والجهد والمال من أجل أن يعيش بها، فهو- إن شئت فقل- لا يريد حقاً وابتداء إلا الدنيا، ومن ثم يكرس كل ما يملكه من قوى وجهد ووقت ومال ليعيش من أجلها، وهنا تأتي الإشكالية.
وهي إشكالية تتضح لنا أبعادها وحدودها الحقة كما ندرك نتائجها إذا ما تساءلنا عما هو أقصى ما يحتاج إليه الإنسان في هذه الدنيا حتى تغريه ليحيا بها ومن أجلها؟ ذلك لأن حقيقة ما يحتاجه كل إنسان وأي فرد، لا يخرج عن ثلاثة أمور أساسية: طعام يتقوى به بدنه، ولباسه يستر به عورته، ومأوى له ولمن يعول، إلا أن هناك فارقاً كبيراً وجوهرياً بين من يأكل الطعام وهو يريد منه أن يحافظ على أمانة الجسد الذي ائتمنه الله عز وجل عليه، وبين من يأكل لمجرد الاستمتاع ولذة الطعام، وقس على ذلك سائر المتطلبات والحاجات الإنسانية.
فأقول لك: تمتع وتشهى كما تشاء، لكن اجعل هذا الطعام الطيب الذي ساقه الله إليك مسبوقاً بالنية في أن تستخرج معنى الحمد لله تعالى من قلبك. ولهذا يذكرون أن الإمام علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه ورضي الله عنه- لما سأله بعض الزهاد: هل تشرب الماء الزلال أو البارد أم الماء الفاتر أو القراح زهداً وتقشفاً؟ فأجاب بأنه يشرب الماء البارد، وذلك لأنه- في الهجير والحر الشديد- يستخرج الحمد لله تعالى من صميم القلب.
وحقيقة الأمر أن المسألة هنا- وفي غيرها بالقياس- ترجع إلى معنى الإرادة بين من يأكل طعاماً أو يلبس لباساً ونيته من هذا الحلال الذي أخذ به أن يستخرج معاني الشكر لله تعالى خالصة من قلبه، وبين من قد يأكل الطعام نفسه أو يلبس اللباس ذاته، لمجرد إرادة التمتع، وأن يعيش في هذه الدنيا ولها.\r\n
فالأول هو ما نعنيه بمريد الآخرة والثاني هو مريد الدنيا، وإن تقاسما واجتمعا في وسائل التمتع بطيبات الحياة الدنيا، ذلك لأن السعي في هذه الدنيا لا يضر الإنسان إلا إذا اقترن هذا السعي بنوع “إرادة”، فلا ضير في أن يسعى الإنسان في طلب الدنيا، وإنما بإرادة الآخرة.
لكن هل هناك إشكال في أن يطلب الإنسان وأن يريد التمتع في هذه الدنيا فحسب؟ ليس الإشكال هنا في أن يتمتع الإنسان وأن يطلب ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولكن الإشكال أن يطغيه هذا التمتع والتشهي إلى الحد الذي قد يدفعه إلى أن يفرط في المقصد الذي يعيش من أجله، وهذا التفريط في المقصد والغاية من الوجود هو سبب كل ما نعاني منه من مشكلات وأزمات ابتداء من الحسد والتباغض والقطيعة، وانتهاء بإهدار مقدرات الأرض وصرفها عن دلالات التسخير والعمران إلى مضاداتها، مما نحياه ونعرفه ونعايشه في حياتنا اليومية.
وإذا تأملتم دوائر النزاعات والأزمات المتتالية والمتداخلة التي تقوم بين الدول، وبين طوائف الشعوب في الدولة الواحدة، وبين الأرحام والأقارب، وفي داخل البيت الواحد والأسرة الواحدة، لوافقتموني في النهاية على أن كل دوائر الإشكالات الكبرى والإقليمية والمحلية والأسرية ترجع إلى نفس الإنسان وأن السعادة والشقاء والغضب والرضا والطمأنينة والقلق مرجعها إلى نفس الإنسان.
ولهذا لما أقسم الله تعالى بمظاهر ودلائل الوجود الكونية العظمى من الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض جعل منتهاها وخاتمتها القسم بذات الإنسان “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها” (الشمس: 7-8)، مع جواب القسم هنا “قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” (الشمس: 9-10) لأن هوى النفس قد يصير إلهاً يعبد من دون الله تعالى “أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا” (الفرقان: 43).
لإن الإنسان إذا ما تعامل مع متطلبات النفس ومتعتها فحسب واستجاب لكل ما تريده فإنها توقعه في مشكلتين كبيرتين:
المشكلة الأولى: أن مرادات النفس لا تنتهي فإن أعطيتها شيئاً أو أشبعت لها حاجة امتثالاً لمرادها طالبتك بالثانية، وبالثالثة وبالمزيد حتى لتصل النفس في معظم الأحوال إلى درجة تفقد معها التمتع بما كانت تشتهيه أصلاً فتطلب شيئاً شاذاً أو خارجاً عن إطار المألوف والمعقول، بل والمنافي في بعض الأحيان للفطرة الإنسانية السوية، فالنفس البشرية لا ترضى عنك مهما سعيت في رضاها، وكلما أرضيتها بشيء طالبتك بالمزيد.
والمشكلة الثانية في إشباع متطلبات النفس أنها متعة ولذة مؤقتة تنتهي بمجرد الإشباع- أو كما يقولون بالمنفعة الحدية- بل قد تتحول إلى الضرر في حالة الإكثار والإفراط والنهم، مثلما تنتهي في كل الأحوال في الحياة الدنيا قبل الآخرة، فسعادة النفس الدائمة أمل غير قابل للتحقيق وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، والنفس إذا طغى هواها وغلبت شهواتها وسيطرتها على الإنسان حالت بينه وبين حقائق التزكية وقادته إلى الخيبة والخسران.
بينما ذلك الذي ينتقل من مراد الدنيا إلى مراد الآخرة مريداً لله تعالى إذا تلذذ- من ناحية- بالطعام الذي أكله، وحمد الله تعالى الذي رزقه، وشهد المنة لله عز وجل فإنه يصل لذته وفرحه ومتعته بالله تعالى، وهي لذلك لذة صافية دائمة باقية عنده طوال حياته ببركة رزقه الطيب وشهود المنة لله تعالى، وحتى إلى ما بعد مماته إذ يثاب على ذلك الحمد والشكر عند وقوفه بين يدي الله، وكذلك فإنه سيكون- من ناحية أخرى- مالكاً زمام نفسه لا مملوكاً لها تسيره كيفما أرادت، فتنبه لهذا الأمر وتيقن أن الذي يعيش وهو يتناول متع الدنيا المباحة- لكنه مريد لله تعالى وليس للدنيا- يعيش قوياً بالله عز وجل مالكاً زمام نفسه.
ولهذا فإن أول الطريق في السير إلى الله تعالى- وبداية سلسلة هذه المقالات- هو تصحيح النية، فإن لم تصح النية لم يصح العمل، ومن لم يصحح نيته فإن كل أعماله يشوبها دخن، وأمر العمل مقرون بالارتقاء بمستوى النية إلى المعنى الذي تتضاعف فيه الأعمال لصاحبها، ليجد الإنسان ثمرات ودرجات ومراتب لم يكن قد عمل لها، لكن بسبب صدق النية في قلبه لارتقاء هذه المراتب يمكنه الله عز وجل منها، لأن الله تعالى مطلع على النيات وعلى من يريد الدنيا ومن يريد الله تعالى والآخرة.