خاطرة بين التعصب للفكر واكتشاف خفايا النفس في جلسة حوارية مع الشباب
الحمد لله،
سرّني أنْ جلست الأسبوع الماضي مع عدد من الشباب، منهم المتسائل ومنهم المتشكك ومنهم من يعتبر نفسه ملحدًا..
ودار الحوار..
وسأل أحدهم عن الرأي في الفكر “الماركسي” فأجبته بأنه يحتوي على المقبول والمرفوض ولولا وجود ومضات من الحق فيه لما حمل عوامل الاستمرار، فالباطل المحض لا يقاوم عوامل الفناء، ولا يمكن أن يبقى قابلاً للاعتناق من قِبل الصادقين في البحث، {إنَّ الباطلَ كان زَهُوقًا}، فهو بالرغم مما نراه باطلاً فيه يحتوي على الاهتمام بالعدالة الاجتماعية وإن اختلفنا معه في فلسفة تحقيقها، ولكنه يبقى فكرًا يقبل الحوار.
والمشكلة الكبرى مع الماركسية بدأت عند نقطة التحول من التنظير إلى التطبيق في طورها اللينيني والستاليني، حيث احتيل على عواطف الكادحين ثم كانوا هم أولَ الضحايا لمجازر الدولة الماركسية اللينينية الستالينية، ونحن قد عانينا من بشاعة هذا التطبيق في الجنوب العربي “اليمن الجنوبي” فور استقلاله من الاحتلال الانكليزي وانضمامه إلى المعسكر الشرقي.
ثم قلت: “ماركس مفكر، لينين نصّاب، ستالين جزار”.
وحاول الشاب أن يدافع عن أسباب المجازر التي ارتكبها ستالين ضد الملايين من شعبه قتلاً وتهجيرًا وتجويعًا على نحو يكاد يصل إلى تبرير هذه الجرائم بمبررات الحفاظ على الدولة وحماية المشروع، في الوقت الذي يشتد نكيره على ما تفعله دولته تحت نفس المبرر وهو لا يُقارن إطلاقًا بما ارتكبه ستالين.
وليس هذا هو المقصود من ذكر الموقف ولكن عندما أراد الشباب الحوار حول الإسلام والإيمان طلبوا أن يكون المجال مفتوحًا دون تقييد، فأجبتهم مُرحبًا:
“بالطبع ليس هناك سقف للحوار سوى المنهجية العلمية والأدب في النقد”.
وهنا أجاب أحدهم بأسلوب خَلوق: ما هو ضابط الأدب في النقد؟ هل يمكن أن نصف الرموز المقدسة لديك بوصف “النصّاب والجزّار” كما فعلت مع لينين وستالين؟
وهنا تنبهت إلى الازدواجية الصادمة التي نعيشها نحن في حديثنا عن أدب الحوار، وإلى التعصب الدفين الذي يوجّه تصرفاتنا، ووقفت وقفة سريعة مع نفسي، فاعتذرت لهم عن اللفظين واعترفت بأنني كنت أمارس ازدواجية المعايير من حيث لا أشعر.
وطال الحوار إلى قرب الفجر حول الأدلة العقلية على وجود الله سبحانه وتعالى، وحول تداخل تأثير العقل والقلب والنفس والروح والجسد على قناعات الإنسان وردود أفعاله، وخرجت بشعور يغمر القلب بأنني تعلمت شيئًا جديدًا عن نفسي الأمّارة بالسوء، وأنني خرجت بحالة أفضل من الحالة التي دخلت بها، وأرجو أن يكون هذا هو ما خرج الشباب به.
وبعد صلاة الفجر في مسجد سيدنا الحسين وانتهاء درس الفجر “في كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق من إحياء علوم الدين”؛ آويت إلى الفراش متقلبًا مع تساؤلات للنفس وتوقفات طويلة ما زلت أعيش معانيها حتى كتابة هذه الخاطرة..
لماذا لا تزال حتى الآن ترتكب هذه الحماقات؟..
هل كان أدبك صورة زائفة تُجمّل بها صورتك أمام الآخرين؟..
إلى متى تستمر مخدوعًا بنفسك الأمّارة بالسوء؟..
هل هي ظلمة التعصب المقيت والهوى الأعمى؟..
ما هي قيمة أنك تُدرّس علم الأخلاق وإصلاح القلوب وأنت ما تزال سيئَ الخلق مريض القلب؟..
من أين أوتيت؟
وبعدها بأيام توفي الأستاذ محمد قطب المفكر والكاتب الإسلامي المعروف وشقيق الأستاذ سيد قطب.. وفوجئت بسيل من الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتساءل وتستنكر ما أسمته “رفض الترحم على الفقيد” فأجبت بأن الفقير إلى الله لم يعلم بوفاته أصلاً فكيف أرفض الترحم عليه “رحمة الله عليه” واستنكرت أن يستمرئ الكذب من يدعي نصرة الإسلام.
فأجاب أحد الإخوة المحترمين بسؤال استنكاري جديد: كيف تتغنى بتمجيد مناقب “مانديلا” وتتجاهل مثل هذا الرمز؟
فكان مفاد الرد بأنه لا مقارنة بين فكر استقر على السلام وفكر بُني على التكفير والدم..
وأترك لكم استنتاج ردة الفعل..
بالطبع لم أتوقف كثيرًا أمام ردود الفعل بسبب أنها متكررة في كل مرة يحدث فيها اختلاف فكري، فأمامنا وقت حتى نتعلم فضيلة قبول الاختلاف، ونتعلم الفرق بين نقد الفكر وتجريح الأشخاص، ونتعلم الفرق بين الثناء على المبادئ النبيلة وإقرار العقائد المخالفة.
فقط كان التوقف مع تعليق من أحد أقارب المُتوفَّى يحمل عتبا إنسانيًا لكون الرجل توفي قريبًا وأهله يتلقون العزاء فيه، فشعرت بالخجل من هذا الاقتران بين تناول الفكر وحالة الوفاة فبادرت إلى تعزيته والتأسف له عن ذلك.
هنا نجد أن لدينا مشكلة حقيقية في ازدواجية المعايير والتعصب اللاشعوري الذي يكمن وراء الكثير من ردود أفعالنا ومواقفنا بل ومبادراتنا أيضًا.
فهي مشكلة موجودة في نفوسنا قبل أن تكون في أفكارنا، ثم تأتي بعض الأفكار لتُغذّيها ثم يُستثمر ذلك في ساحات التديّن والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام.
وهذه المشكلة هي أزمة عالمية نراها ونسمعها ونلمس آثارها في الواقع العالمي، بل ربما نجدها ضالعة في أعماق التاريخ الإنساني ضلوعها في عمق النفس الإنسانية.
نعم أيها الأحبة.. فجُلّنا يرفع عقيرة الإنصاف وترك التعصب والازدواجية، وجُلّنا يتهم الآخر بهذا الداء وينكر ذلك عليه، ثم يقع هو في فخ التعصب والازدواجية مع اختلاف طرق التعبير عن ذلك وتنوع مصطلحات الشجب والاستنكار والرفض..
أيها الأحبة.. لقد كشفت السنوات الثلاث الماضية عن عورة مُخجلة فينا وهي “الازدواجية” و”التعصب”، فمن يراجع مواقف كل من مؤيدي النظام والمعارضة اللذَين تبادلا الأدوار في بعض بلداننا يجد أن في كلٍ منهم مَن يُمارس ما انتقده وينتقد ما مارسه بمجرد تبادل الأدوار وتقلّب الأحوال، إنها العيوب التي كانت أنفسنا تسترها عنّا حتى لا نعالج خللها ولا نتخلص من ضررها.
أيها الأحبة من مختلف التوجهات والخلفيات الفكرية: العيب والخلل في أنفسنا قبل أفكارنا..
أيها الأحبة .. نحن “متعصبون” .. نحن “مزدوجو المعايير”..
وعلينا إذا أردنا أن نرتقي بأنفسنا وأوطاننا وأمتنا والبشرية أن نتخلص من هذه “الازدواجية” ومن هذا “التعصب”، فمن ههنا البداية الصحيحة.
أيها الأحبة..
البداية الصحيحة من معالجة داء “الأنا” “Ego” الذي يحملنا على “التعصب” و”الازدواجية”.
البداية الصحيحة من شجاعة “نقد الذات”: {وما أُبرِّئُ نفسي إنَّ النفْسَ لأمّارةٌ بالسُّوء}، وهناك فرق بين جلد الذات ونقد الذات فالأول هروب من تغيير الواقع والثاني إصرار على البداية الصحيحة لتغييره.
البداية الصحيحة من إعمال البصيرة في عيوب النفس وترك المعاذير والتبريرات: {بَلِ الإنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ ولو أَلْقَى مَعاذِيْرَه}.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها.. يا رؤوفًا بالعباد.