لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس أمن أهلها وقرر لهم عهداً يكفل لهم العدل والحياة الكريمة والأمان على أنفسهم, وجاء في هذا العهد
لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس أمن أهلها وقرر لهم عهداً يكفل لهم العدل والحياة الكريمة والأمان على أنفسهم, وجاء في هذا العهد: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبدالله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أهل إيلياء من الأمان, أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم, وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم, ولا تهدم, ولا ينتقص منها, ولا من خيرها, ولا من صلبهم, ولا من شيء من أموالهم, ولا يكرهون علي دينهم, ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيلياء( القدس) معهم أحد من اليهود.
وعلي أهل إيلياء أن يعطوا الجزية- وهو القانون الذي ارتضته الأمم جميعاً وقتها- كما يعطي أهل المدائن, وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص; فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتي يبلغوا مأمنهم, ومن أقام منهم فهو آمن, وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية, ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وعلي صلبهم حتى يبلغوا مأمنهم, ومن كان فيها من أهل الأرض; فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية, ومن شاء سار مع الروم, ومن رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم.
شهد على ذلك: خالد بن الوليد, عمرو بن العاص, عبدالرحمن بن عوف, معاوية بن أبي سفيان, كتب وحضر سنة خمس عشرة. (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل لمجير الدين العليمي 253/1)
وهكذا نرى في فتح الإسلام للقدس والعهدة العمرية التي أعطاها لنصاري القدس علو مكانة القدس وأهميتها, وتجلى ذلك عندما لم يدخلها المسلمون إلا بعد الصلح وارتضوا شروط أهل القدس ورهبانها في ضرورة حضور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بنفسه ليتولى أمرها.(البداية والنهاية 65/7)
وبهذا الخلق يظهر تسامح الإسلام ليؤكد قداسة المدينة في الإسلام وتعلق قلوب المسلمين بها, على عكس الأمم السابقة التي احتلت مدينة القدس المباركة; فمنذ نشأة المدينة تم تدميرها وسفك دم أهلها كلما دخلها غاز أو محتل, وذكر سفر يشوع أن: يشوع بن نون احتل أريحا فدكها دكاً وقتل من وجده فيها لا فرق بين رجل وامرأة, شيخ أو طفل (سفر يشوع, الإصحاح6, عدد21-35)،كذلك عامل الغزاة المدينة على مر العصور بنفس الطريقة من القتل والحرق والتدمير والتنكيل, كما قال تعالي علي لسان ملكة سبأ:”إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً”( النمل:34)، فكان الفتح العمري بياناً لإسلامية المدينة المقدسة وترسيخاً لطابعها الإسلامي العميق.
وعندما دخل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المدينة نقب عن صخرة بيت المقدس وقام بتنظيف مكانها من القمامة التي كانت عليها منذ أيام هيلانة, وقد روي عنه أنه قال لكعب الأحبار: “أَيْنَ تُرَى أَنْ أُصَلِّيَ؟ فَقَالَ: إِنْ أَخَذْتَ عَنِّي صَلَّيْتَ خَلْفَ الصَّخْرَةِ، فَكَانَتِ الْقُدْسُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ: ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ، لَا، وَلَكِنْ أُصَلِّي حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ فَكَنَسَ الْكُنَاسَةَ فِي رِدَائِهِ، وَكَنَسَ النَّاسُ”. (مسند أحمد268/1)
وعندما تجول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة, وكانت لا تزال تئن من الخراب الذي أحدثه الغزو الفارسي, رأى بعينه الثاقبة أن يبدأ بالتنظيم الإداري والقضائي; ففرض للمسلمين الفروض, وأعطى العطايا, ثم وضع التاريخ الهجري ودون الدواوين, وعين لكل منطقة أميراً وعين قاضياً, وأسس الحسبة في المدينة, كما هدم البناء المحدث في وسط السوق وحظر على الناس الازدحام في الطرق وحضهم على التجارة قائلا: لا تلهكم الرياسة وحبها, ولا يغلبنكم الغرباء علي التجارة, فإنها ثلث الإمارة.
وبينما كان عمر يتفقد المدينة ويبحث شئونها وما أصاب سكانها من حيف وضيم في أثناء الفتح, أتاه رجل من النصارى له ذمة مع المسلمين في كرم عنب, فشكا إليه همه, فركب معه, ولما رأى أن فريقاً من المسلمين أكلوا ما في الكرم لشدة ما أصابهم من جوع أعطاه ثمن ما أكلوه, كما أمر رجاله بالعدل, قائلا لهم: متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. (تاريخ القدس لعارف العارف, ص49-50)
لقد كان فتح المسلمين بيت المقدس رجوعاً به إلى أصله الأول, حيث نزلت القبائل العربية فيه, واستقرت به, فانتشرت اللغة العربية سريعاً, وشعر الناس بالأمان والاستقرار والتعايش السلمي في ظل راية الإسلام وسماحة المسلمين, وكان ذلك عوضاً لبيت المقدس عما عاش فيه من آلام من لدن نشأته.