يشكل ملتقى الإسلام والسياحة انعطافاً مهماً إن أدركنا نحن معاشر الدعاة حساسية هذا المنعطف في خضم الأحداث التي أدت إلى نوع من التجافي بين بيت الدعوة والخطاب الإسلامي وبين واقع الحياة التي يعيشها العالم الآن،وأن الانعطاف الذي برز في الملتقى فرصة قليلة التكرار تحتاج إلى عميق فكر وجديد طرح لإعادة تجسير العلاقة بين بيت الدعوة وبين واقع الحياة في عصرنا.
هذا ما أكد عليه الحبيب علي الجفري مستهل كلمة دعاة وعلماء اليمن في افتتاح ملتقى الإسلام والسياحة الأول 2009 الذي انعقد في أجواء العاصمة اليمنية صنعاء تحت شعار” السياحة صناعة ودين“ونظمته وزارة السياحة برعاية كريمة من فخامة الأخ على عبد الله صالح رئيس الجمهورية وبمشاركة كوكبة متميزة من علماء الأمة ومفكريها،وبحضور دولة رئيس مجلس الوزراء الدكتور علي محمد مجور وعدد من السادة الوزراء 12- 13 أكتوبر/ تشرين الجاري.
كلمة دعاة وعلماء اليمن
أوضح الحبيب أن السياحة تحتمل معنيين أولهما قديم موجود في الرسالات السماوية وجاء الإسلام موجهاً وضابطاً له ألا وهو الرحلة والسفر من أجل التفكر والعبادة والسير في الأرض أو الجهاد في سبيل الله تعالى أو الصيام، والمعنى الثاني حديث ومعاصر وهو السفر بقصد التعبد أو المعرفة أو بقصد التنزه والترفيه، وأن السياحة لا يجب أن تقتصر-في رؤية القائمين على أمرها -على ذلك الجانب الضيق من التسلية والترفيه الذي تقع فيه كثير من المحظورات، وإنما سياحة اليوم فرصة سانحة لمد جسور الفهم و التواصل بين الشعوب والثقافات مثلما هي مناسبة لطي كثير من الكذب و التدليس الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام لتشويه صورة المسلمين والإسلام.
لذا لا يجب أن يقتصر فهمنا للسياحة على ما لها من جوانب اقتصادية فحسب (وهي مهمة بالتأكيد)،الأمر الذي يحولها أحياناً إلى نوع من الارتزاق بمظاهر-جد-مرفوضة ترخص فيها غوالي خصوصياتنا الثقافية وتقنن الدعارة في بعض البلاد باسم السياحة،فللسياحة جوانب ثقافية فاعلة يجب إعادة الاهتمام بها،خاصة أن من يرتادون بلادنا من السياح لا يأتون في غالب الأحوال بقصد التسلية والترفيه (فهذا قد يكون موجوداً ومعتاداً عليه وأكثر في البلاد غير الإسلامية التي يقدمون منها) بقدر ما يفدون للتعرف عن قرب و بقصد معايشة ثقافات وشعوب أخرى،ولذا فإن لديهم استعداداً كبيراً لاحترام خصوصياتنا الثقافية،إن أحسنا رفع قيمة العطاء الثقافي للسياحة في بلادنا.
أكد الحبيب بحزم دور التعامل الإنساني الراقي مع وفود السياح إلى بلادنا في توضيح الصورة الحقيقية والمشرفة للإسلام، وألا يتخذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-بحال-تكئة للاعتداء والعدوان عليهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم،وأن تلك الأفعال من قبيل الإجرام على أناس آمنين مستأمنين في بلادنا.
في ختام الكلمة وجه الحبيب الشكر إلى القائمين على تنظيم الملتقى الأول للإسلام والسياحة الذي جمع بين أطياف متنوعة من بيت الدعوة تختلف في رؤاها الشرعية ومفاهيمها واجتهاداتها،وأن هذا النوع من الاجتماع مطلوب في زمان يستغل فيه اختلاف الاجتهاد في تمرير وتبرير كثير من الممارسات التي لا تفيد الإسلام والمسلمين.ومرحباً بالسادة العلماء الأفاضل الذين قدموا من أرض الحرمين ومن بلاد الشام ومن مصر بلد الأزهر .
على حين ألقي فضيلة الشيخ عائض القرني كلمة الدعاة والعلماء ضيوف اليمن،متغنياً بحب اليمن وصنعاء عبر قصيدة نالت من استحسان وتصفيق الحضور الكثير، مذكراً إياهم أن اليمن الكبير الواحد الوحيد كان أول مقصد للسياح وأن أول سائح مذكور في القرآن هو الهدهد الذي قال: وجئتك من سبأ بنبأ يقين، وأن أول وأصدق المادحين لليمن وأهله كان رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام بقوله الإيمان يماني والحكمة يمانية،موجهاً التحية والشكر إلى اليمن حكومة وشعباً وإلى القائمين على أمر الملتقى.
جلسات ومحاور الملتقى
بعد استراحة قصيرة بدأت فعاليات أولى جلسات الملتقي، والتي خصصت لمناقشة محور حقيقة السياحة في الإسلام بمشاركة د.عبد الحي الفرماوي ود.حسن بن قعود وخصصت الجلسة الثانية بعد صلاة الظهر لمناقشة محور السياحة ودورها في التعريف بالإسلام من الشيخ عائض القرني ود.راغب السرجاني مع ختام أعمال الملتقى في يومه الأول.
شارك الحبيب بمعية د.حازم صلاح أبو اسماعيل في الجلسة الثالثة صباح يوم الثلاثاء 13 أكتوبر والتي خصصت لمناقشة محور حقيقة السياحة في الإسلام، تلتها استراحة قصيرة انعقدت بعدها أعمال الجلسة الرابعة والأخيرة حول محور أهمية السياحة بين الدول الإسلامية وبقية دول العالم من الشيخ محمد موسى الشريف ود.صفوت حجازي.
ورقة عمل الحبيب الجفري
استعرض الحبيب في كلمته المعاني اللغوية والاصطلاحية للسياحة،وأن المعنى التعبدي منها كان مشهوداً لدي اليهود والنصاري بقوله تعالى:”وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ”،فلم ينكر القرآن عليهم الأصل وإنما أنكر عدم قيامهم بحق رعايتها.وإلى ذلك ذهب جمهور المفسرين.
أوضح الحبيب أن هناك مقاصد خمسة من السياحة أشار إليها القرطبي وأولها الصيام (والذي استشكله القاسمي في محاسن التفسير)، والجهاد في سبيل الله تعالى ،و الهجرة و السفر في طلب العلم والحديث، وعمق الخامس منها وهو الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته كل من القشيري بقوله “الذين يسيحون في الأرض على جهة الاعتبار طلبا للاستبصار،ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها بالتفكر في جوانبها ومناكبها،والاستدلال بتغيرها على منشئها ،والتحقق بحكمة خالقها بما يرون من الآيات فيها”،وابن قيم الجوزية بقوله”أن السياحة في التحقيق سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال”.
انتقل بعدها للنظر في إشكاليات واقع السياحة المعاصرة، والحاجة إلى إعادة النظر في منهج وطرق التفكير والتعامل مع كل قضايا الأمة بعيداً عن الإغراق في الواقع أو الانعزال عنه،منوهاً بأن ملتقى السياحة فرصة لفهم تنوع الاجتهادات على أنها سنة كونية والحرص على ربط بيت الدعوة والخطاب الإسلامي بأصحاب التوجهات والتخصصات الأخري.
مثلما دعا الحبيب أهل بيت الدعوة من كافة الاجتهادات إلى أننا إذا كنا قد تجاوزنا مرحلة الانغلاق في منطقتنا إلى الحوار مع الآخر ممثلاً في كلمة سواء وفي مبادرة خادم الحرمين فالأولى ألا تضيق الصدور عن الحوار فيما بيننا، محذراً من خطورة اشتعال النار في بيت الدعوة وأنها أصعب النيران قاطبة وأعصاها التي يمكن أن تشتعل في الأمة، وأشد حتى من نيران الاحتلال والحروب والتخلف وغيرها، لأن بيت الدعوة هو أمل الأمة في إطفاء كل تلك النيران.
خلصت ورقة العمل إلى التأكيد على عدد من النتائج المهمة منها:ضرورة الارتقاء بالسياحة من الاقتصار على المنفعة الاقتصادية إلى دلالات التعارف الثقافي،اختيار أنواع السياحة المناسبة لخصوصيتنا الثقافية كالسياحة الدينية والسياحة العائلية خاصة مع تراجع السياحة القادمة من الشمال لأسباب أمنية واقتصادية،الاعتناء بتوعية السياح بمسار احترام خصوصية البلاد العربية والإسلامية،توعية السياح المسلمين بحقيقة السياحة القائمة على المقاصد الربانية.
تصريح الحبيب لجريدة 26 سبتمبر
من جانب آخر أكد الحبيب علي الجفري –في تصريح لجريدة 26 سبتمبر -أن أعمال اختطاف وقتل السياح الأجانب في اليمن باسم الإسلام جريمة ترقى إلى كبائر المعاصي، ووصف تلك الأعمال أنها من المحرمات التي يكون القصد منها خرق الأمان بالاعتداء على المستأمنين الذين منحوا تأشيرة أمان من ولي الأمر مؤكداً أن انتهاك الأمان الذي منحوه يعد مخالفة للدين الإسلامي الحنيف .
أشار الحبيب إلى أن الهدف من أعمال اختطاف السياح وقتلهم هو ترويع الآمنين منهم عبر ممارسة أعمال إجرامية يكون سببها الجهل بالدين أو التطرف أو أسباب أخرى،داعياً إلى ضرورة توعية السياح عبر إمدادهم بالمعلومات الكافية عن جوانب الخصوصية الثقافية لليمن بصفته بلداً مسلماً ومخاطبتهم باحترام هذه الخصوصية .
وبين الحبيب أن مثل هذه الأعمال إنما تنشأ نتيجة التطرف الفكري الذي يقود إلى أعمال القتل وإراقة الدماء البريئة بغير وجه حق،منوهاً إلى ضرورة أن يبحث ملتقى الإسلام والسياحة في المفهوم الأصيل للسياحة في الإسلام وإن جرى تغيير الكثير من صوره بتغير الزمان والمكان والعمل على تفنيد ما هو الحسن فيها والقبيح مع توضيح جوانبها المتعددة من السياحة الثقافية والترفيهية وغيرها.
ودعا الحبيب الجفري- في ختام التصريح- السادة العلماء والدعاة والمفكرين الإسلاميين إلى بذل مزيد من الجهود من أجل تغيير وإصلاح وتعديل الأفكار المغلوطة بشأن السياحة معللاً تجمع العدد الكبير من الدعاة والعلماء في ملتقى الإسلام والسياحة الأول بصنعاء بأنه نوع من أدائهم لذلك الدور،ومشيراً إلى المسئولية المشتركة لمجتمع اليمن بشأن تعديل تلك المفاهيم للسياحة في الإسلام بمن فيهم من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين والشركات السياحية لإيصال هذه الرسالة للناس كافة.
افتتاح الملتقي الأول
كان السيد رئيس مجلس الوزراء قد افتتح أعمال ملتقي الإسلام والسياحة أمس الاثنين بصنعاء اليمن موضحاً أهمية استجلاء حقيقة نظرة الإسلام إلى السياحة ودور السياحة في المساهمة بجهود التعريف بالإسلام لدى الأمم الأخرى،وأن هذا الملتقى يمثل إضافة مستنيرة وفاعلة وتوجهاً مهماً في الإسهام البناء والارتقاء المستمر بوعي الأمة تجاه القضايا الراهنة وتوجيه اهتماماتها صوب خدمة ثوابتها العقيدية وإرادتها الإيمانية.
وأكد الدكتور علي محمد مجور أهمية أن يشكل هذا الملتقى اضافة مستنيرة وفاعلة لابراز الوجه المشرق للأمة العربية والإسلامية باعتبارها حاملة رسالة دينية وحضارية وإنسانية وأخلاقية عظيمة، فضلاً عن تعزيز الدور الثقافي والحضاري والإنساني، الذي تضطلع به السياحة للتواصل مع الشعوب الأخرى، وكذا العمل على إزالة الأفكار والمفاهيم المغلوطة بشأن السياحة كنشاط متكامل اقتصادي وثقافي ومعرفي وأخلاقي وإنساني إذا ما وظف على نحو متزن كان له بالغ الأثر في تعزيز جهود التنمية التي تنشدها الدول العربية والاسلامية.
كما نوه السيد نبيل حسن الفقيه وزير السياحة بأهمية خروج الملتقى برؤية واضحة لمفهوم السياحة في الإسلام لتصبح السياحة-بحق-صناعة ودين،وأن السياحة ساهمت في مد جسور التواصل بين الأمة الإسلامية وبقية الأمم والمجتمعات البشرية، وكذلك في التعريف بثقافات الشعوب وعاداتها وتقاليدها وأرصدتها الحضارية والإنسانية
توصيات ملتقى الإسلام والسياحة
وإلى هذا دعا المشاركون في ختام أعمال الملتقي الأول من نوعه بتناوله للعلاقة القائمة بين الاسلام والسياحة، ومساعيه إلى توضيح الالتباس الحاصل في بعض المفاهيم والمعتقدات عن السياحة إلى ضرورة إلزام المنشآت السياحية بمقتضيات ومفردات السياحة الإسلامية وتوفير المطبوعات والنشرات التي تسهم في التعريف بقيم ومبادىء الدين الاسلامي بمختلف اللغات.وعلى ضرورة الاهتمام بالمواقع الإسلامية التي لها ارتباط بتاريخ الإسلام ورجالاته، وكذلك المواقع التاريخية المذكورة في القرآن والتراث الإسلامي، واستثمارها في التعريف بالإسلام، وتنمية النشاطات السياحية في البلدان الاسلامية وإبراز القيم الحضارية فيها والعمرانية،والعمل على تأهيلها لتكون ضمن قائمة التراث العالمي.
ودعا الملتقى العلماء والمفكرين إلى تكثيف دراساتهم وأبحاثهم وأنشطتهم في تأصيل مفهوم السياحة في الإسلام، ومعالجة المفاهيم الخاطئة المنبثقة عنها وبما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار، وتجسيد قيم التسامح والوسطية والاعتدال. وطالب المشاركون العاملين على البرامج الترويجية السياحية في الخارج الاهتمام بأبناء المغتربين وتشجيعهم لزيارة أوطانهم الإسلامية والتعرف على ثقافتها ومعالمها التاريخية لتجديد الروابط والصلات والمحافظة على الهوية الإسلامية .
وطالب المشاركون في قرارات وتوصيات الملتقى الدول الإسلامية إلى تأسيس صناعة سياحية ملتزمة بالضوابط الشرعية والقيم الإسلامية و إنشاء معاهد للمرشدين السياحيين تعمل على تثقيفهم وتحصينهم وإعدادهم بما يحقق الأهداف المأموله منهم لإبراز الثقافة الإسلامية،منوهين بضرورة الاهتمام بتشجيع السياحة البينية فيما بين البلدان الاسلامية وتسهيل إجراءات التنقل منها وإليها،وإنشاء منظمة للسياحة الإسلامية في إطار مكونات منظمة المؤتمر الإسلامي.
ودان الملتقى الأعمال التخريبية والأحداث الإرهابية التي تستهدف الرعايا الاجانب والمقيمين والمواطنين سواء بالقتل أو الاختطاف، وذلك لمخالفتها ومنافاتها مع تعاليم الإسلام، ومجافاتها لقيمه ومبادئه السمحة،وتعارضها مع عادات وتقاليد المجتمع المسلم الداعية إلى الكرم والمحبة والتسامح والتعايش بين الامم والشعوب والمستمدة من روح الشريعة والكتاب والسنة المحمدية.
ودعا العلماء المشاركون الدول الاسلامية الاقتداء بمبادرة الجمهورية اليمنية الرامية إلى الاهتمام بديمومة الدعوة لهذا الملتقى الذي يركز على توضيح حقيقة السياحة في الإسلام ،معربين عن شكرهم لليمن حكومة وشعباً لفتح باب الحوار حول واحد من أكثر الموضوعات إثارة للجدل في الوقت الراهن .