ندوة صحفية للحبيب علي الجفري على هامش مؤتمر التصوف منهج أصيل للإصلاح والمنعقد بالقاهرة 24-26 سبتمبر 2011 ونشرتها جريدة صوت الأزهر
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد فالتصوف علم شأنه شأن بقية علوم الشريعة، إذ هو العلم الذي يخدم الركن الثالث من أركان الدين (الإحسان) مثلما يخدم علم الفقه ركنه الأول (الإسلام) وعلم التوحيد ركنه الثاني (الإيمان). ومهمة التصوف ربط القلوب بالله عز وجل من خلال العمل على إصلاحها وعلى تزكية الأنفس، والعمل بالمقصد الأساسي لوجودنا. التصوف هو العلم الذي يخدم الركن الثالث من أركان الدين وهو أيضاً كغيره من علوم الشريعة قد تعرض لكثير من التشويه، أخطره ما كان من داخله أي ممن ينتسبون إليه، ولهذا كان يجري التقويم والضبط من داخله أيضاً، تماماً كما حصل في علم التوحيد أو علم العقيدة عندما دخل فيه من ليسوا له بأهل، فظهر من يعطل صفات الله، وظهر من يشبه صفات الله بالبشر، وقد كان التقويم من داخل علم العقيدة ذاته، فنشأ علم التوحيد وعلم الكلام، وكذلك الحال بالنسبة إلى علم الحديث عندما دخل فيه الكذابون الذين وضعوا الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان التقويم من داخله فجرى تمحيص الأسانيد وتأسيس علم الجرح والتعديل لمعرفة أحوال الرواة. وكذلك في علم التصوف الذي تعرض لكثير من التشويه على يد مَن ليسوا بأهله، فكان التقويم من داخله أيضاً، وظهر العلماء الذين لقبوا بمحتسبي التصوف مثل الحارث المحاسبي والكلاباذي والإمام القشيري وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي والشيخ أحمد زروق، ومن المتأخرين شيخنا محدث الديار المصرية وعضو هيئة كبار العلماء الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم؛ وقد ألفوا الكتب التي ضبطوا فيها منهج التصوف ووضعوا له قواعد تبين الحق من الباطل، وقد ذكر الإمام الشعراني رحمه الله في مقدمتي كتابيه لواقح الأنوار القدسية وتنبيه المغترين أن الدس والتزوير على الصوفية وصل إلى نشر نسخ من كتبه أضيف إليها زيادات مخالفة للشريعة، وكان ذلك في حياته، ثم وضع ضابطاً لتمييز الحق عن الباطل، وهو موافقة الشريعة المطهرة.
القاسم المشترك في كل إشكالات العالم غياب التزكية التصوف ليس مذهباً وإنما منهج تزكية يأخذ به المسلم السني أياً كان مذهبه، حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً. والدور المتوقع منه أن يؤديه هو إنجاز المهمة الأعظم والأخطر التي نحتاجها في هذه المرحلة وهي تزكية الأنفس، لأن القاسم المشترك بين جميع إشكالات العالم الذي نعيشه على المستوى الفردي والاجتماعي والسياسي والإقليمي بل والعالمي وعلى سائر المستويات إنما هي أزمات متولدة من تصرفات صادرة عن نفوس أهمل أصحابها تزكيتها. فالسارق يسرق لأن نفسه لم تعرف التزكية، والحاكم الظالم يظلم ويقتل لأن نفسه لم تتزك، والمعارض الذي يستغل حرقة الناس وآلامهم وقضاياهم وخروجهم للمطالبة بحقوقهم لمصالحه الضيقة لم يعرف التزكية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التاجر الذي يستغل الناس ويتعامل معهم بجشع، فالمشكلة التي تعد قاسماً مشتركاً في العالم اليوم محلها وموطنها النفس التي لم تتزك. فإذا كان التصوف هو العلم الذي يعنى بتصفية الأنفس من المثالب والعيوب وإصلاح السلوك للتحلي بأحسن الأخلاق فإن الدور الأساسي المتوقع منه أن يكون خطاب أصحابه خطاباً يحدو بالأنفس نحو تزكيتها وتهذيبها وأن تكون أحوالهم قدوة في التزكية وحسن السلوك. الخطاب الإسلامي في عمومه يشوبه نوع من الجدل والشتات والاختلاف.. هذا يصنفه خطاب دعاة جدد.. وهذا خطاب دعاة سلفيين.. إلخ.. ما هي صورة الخطاب الإسلامي الذي تحتاجه الأمة في الوقت الحالي وبخاصة في ظل الظروف الراهنة؟ أود أولاً قبل الإجابة على سؤالك أن أؤكد أنّ خطاب التصوف إذا قام على أساس تصفية النفس وتزكيتها فسينطوي على أربعة أركان أساسية أولها الرحمة بالخلائق وثانيها محبة الخير لهم وثالثها المنطلق السني الأصيل المرتبط بالسند الخطابي ورابعها قدرته على مخاطبة العقول والنفوس. خطاب التصوف رحمة ومحبة وقدرة على مخاطبة العقول والنفوس فإذا تكلمنا عن هذه المعالم الأساسية دخلنا إلى سؤالك حول أهم معالم الخطاب الإسلامي في ظل المرحلة التي تمر بها المنطقة في هذه الآونة. وأعتقد أن من أهم ما ينبغي أن يكون عليه هذا الخطاب أن يكون نابعاً من مشكاة الإسلام الأصيلة القادرة على فهم الواقع وتصويره بشكل صحيح، ثم البلاغ عن الله تعالى. وهذا المعلم الأول ينفي القيام على أساس الإفراط في المواءمة للتوصل إلى هدف ولو كان نبيلاً. والمعلم الثاني للخطاب الإسلامي أن يكون متصلاً بحاجات الناس الأصيلة لا العارضة، ونحن لدينا مشكلة في الخطاب الإسلامي منذ سنوات، إن لم يكن منذ عقود، في التعامل مع العَرَض لا المرض. والمعلم الثالث أن تكون صيغة هذا الخطاب تؤدي إلى التقاء الناس لا إلى تعميق الفرقة فيما بينهم. والمعلم الرابع أن يكون قائماً على التثبت، ومقصودي من التثبت هنا أن يكون الناطق بالخطاب الإسلامي متثبتاً متيقناً متبيناً للمعلومة التي بنى على أساسها هذا الخطاب، فلا يسمع خبراً في نشرة أو يرى منظراً في وسيلة إعلام فيسارع ويبادر بالقول والفعل قبل أن يتحقق من خلفية ما يتكلم عنه.
التثبت قيمة نحتاج إلى إحيائها في بيت الخطاب ليس من منهجنا أن نبحث عمّن نحمله مسؤولية المشكلة وأحب دائماً أن نسلك سبيل نقد الذات. وقد يكون صحيحاً أن الإعلام له دور كبير في تشويه صورة الواقع في كثير من الأحيان، لكن الإشكال يبتدئ من عندنا نحن في بيت الخطاب الإسلامي، لأنه من واجب الداعي إلى الله عز وجل، فضلاً عن العالِم المتمكن، أن يتحقق من الأمر لا أن يكون مجرد ناقلٍ لخبر يراه أو يسمعه في وسيلة إعلام. فصفة التثبت صفة نحتاج إلى إحيائها وتقويتها مرة أخرى في بيت الخطاب الإسلامي.
هناك اختلاف لكن لا يصل لمرحلة التصارع استفدت من حوار ’آمنت بالله‘، فضلاً عن المعلومات التي صححت عندي، أشياء كثيرة؛ منها أن الحواجز الضخمة المتوهمة بين التيارات الفكرية الموجودة في مصر- وربما تلك الموجودة في المنطقة كلها – غير حقيقية؛ فقد يوجد اختلاف لكنه ما كان ليصل إلى ذلك المستوى من الصراع الذي نعيشه اليوم لولا تدخل عوامل أخرى غير الاختلاف في الساحة الثقافية. ومنها أن هناك ظلماً كبيراً وقع على الخطاب الإسلامي من بعض من انتسبوا إليه، عندما لم يحسنوا تمثيله في الحوار، وكذلك الحال مع أصحاب بعض التيارات الأخرى. والفائدة الأهم أننا بحاجة إلى ترسيخ ثقافة الحوار الضائعة عندنا اليوم، إذ أكثر ما نراه اليوم من أشكال الحوار هي أقرب إلى الصراع منها إلى الحوار الحق. وأخيراً فقد استفدت من الحوار أن الاختلافات وإن بدا بعضها قوياً وعنيفاً إلا أنه في رحابة ديننا وسعة عقول مثقفينا في المنطقة ما يكفل استيعابها لأن المنطقة تتسع للجميع، لولا أن فينا كثيرين قد ضاق بعضهم ببعض.
نحن في حاجة إلى الاثنين بشكل متواز، فلا يتأتى أن نوقف الحوار مع الآخر حتى ننتهي من الحوار مع الذات، لأننا دوماً وفي كل مرحلة نحتاج إلى حوار مع الذات ولأن الآخر لن ينتظرنا حتى نفرغ من حوارنا بعضنا مع بعض ثم يستقبلنا لنحاوره. فالآخر يسير في طريقه وله أجنداته ومصالحه، وإذا لم نفقه كيف نقيم منهجية الحوار مع الآخر بشكل صحيح سيمضي الآخر في تفاعله معنا ضمن تصوراته ولن ينتظر نتائج حوارنا الداخلي.
نسأل الله تعالى أن ينفع بها جميعاً، ولكن ما دمنا نتكلم عن نقد الذات فلا أعتقد أن الأكثر منها يصب في مصلحة الارتقاء بالخطاب الإسلامي.
القدر الواضح الذي أستطيع أن أتكلم به حول الحالة الراهنة هو أن هناك كماً من المظالم ألجأت الناس بسبب الضنك الشديد الذي مروا به إلى الخروج مطالبين بحقهم في أن يعيشوا حياة كريمة، وهذا الخروج قابله البعض بسوء تعامل والبعض الآخر بمحاولة استيعاب، لكن مقابل إشكالية تَجبُّر بعض الأنظمة واستكبارها في التعامل مع متطلبات شعوبها هناك محاولة واضحة من البعض لاستغلال آلام شعوبنا وقضاياهم العادلة لمصالحه السياسية الضيقة. وهذا كله يجعل الخارطة مشوشة للغاية، لاسيما مع التشغيب والتشويش الذي تمارسه أكثر وسائل الإعلام اليوم على القضايا بما يتناسب مع أجندة كل منها والجهة التي تدعمها، ومع غياب سنة التثبت في مجتمعاتنا بل حتى في بعض شرائح مثقفينا، وهذا من أخطر ما تمر به المنطقة. فالبعض يُوَصِّفُ المسألة بأنها مؤامرة خارجية بحتة هدفها الاستيلاء على المنطقة بعد تقسيمها وتفتيتها، والبعض الآخر يقرأ الحالة على أنها ثورات طبيعية نقية تقية صافية لا تشوبها أي شائبة، ولست مع أي من الفريقين. انطلاقة قضايا عادلة ومعاناة شعوب مع محاولات استغلال فالمسألة بالفعل انطلاقة صادرة عن حرقة حقيقية وقضايا عادلة وآلام ومعاناة مرت بها الشعوب، وفي الوقت نفسه نحن لا نعيش وحدنا منقطعين عن التأثر والتأثير في العالم، فهناك دول لها مطامع ومصالح في منطقتنا التي يسمونها بالشرق الأوسط، والفقير أسميها وسط العالم، ففيها مكمن مصالح الدول الكبرى في العالم وصراعاتهم، فلا يوجد عاقل يتوقع أن تحصل كل هذه الأحداث دون محاولات خارجية ضالعة في تفجيرها أو تهدئتها أو توجيهها أو استغلالها. إذن هي خليط بين قضايا ومحاولات استغلال من قبل أصحاب مصالح ضيقة، وما يزيد عن هذا القدر من البيان فالفقير لا ينبغي له الخوض فيه لأنني لست بمختص في السياسة، وإنني أعيب على غير المختصين في الشريعة الذين يتدخلون ويخوضون في أمور الشريعة، فلا ينبغي أن أقع في الشيء الذي أعيبه.
ليس لمراجع الأمة أن يكونوا طرفاً في صراع سياسي القائمون على الخطاب الإسلامي صنفان: صنف العلماء المراجع الذين يرجع الناس إليهم في الفتوى وفي فهم ما هو الصحيح، وصنف الدعاة والمصلحين الذين يعظون الناس ويحببون فعل الخير إليهم. والصنف الأول أي المراجع لا ينبغي أن يكونوا بحال طرفاً في تنافس أو صراع له طابع سياسي، لأنه عند اختلاف الأطراف السياسية على أمر له علاقة بالدين ينبغي أن يرجعوا إلى العلماء المراجع، فإذا أصبحوا هم طرفاً في التنافس أو الصراع فكيف يمكن الرجوع إليهم؟ أو على الأقل إذا اختار أحد المراجع أن يخوض الصراع أو التنافس السياسي، فلا يصح الرجوع إليه هو في هذا الموضوع؛ بمعنى أنه إذا رأى أحد العلماء المراجع أن يكون طرفاً في اللعبة السياسية إن صح التعبير، فهو بذلك لم يعد مرجعاً في هذا المجال ولا يجوز اعتبار فتواه صحيحة في مثل هذه الحالة لأنه أصبح طرفاً في التنافس والصراع. وهذا ما حصل مع الشيخ حسن مأمون مفتي مصر الأسبق رحمه الله تعالى حين قرر المشاركة في انتخابات مجلس الأمة زمن الاتحاد بين مصر وسوريا، فاستقال أولاً من وظيفته في دار الفتوى وتخلى عن مسؤولياته بصفته مفتي الديار المصرية ثم نزل إلى الانتخابات. لا يجب أن يتحول منبر الدعوة إلى دعاية انتخابية أكرر أنه لا ينبغي للعلماء المراجع أن يكونوا طرفاً في تنافس سياسي، وإلا فلا يرجع إليهم في الفتوى المتعلقة بهذا التنافس. أما الصنف الثاني وهم الدعاة والمصلحون فأمرهم أقل خطورة من حيث الفصل في الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الشأن، ومن ثمّ إذا أحب أحد منهم أن يشارك في الميدان السياسي فله ذلك – وإن كنت لا أقبله لنفسي – شريطة ألا يحول منبر الدعوة إلى جزء من الدعاية الانتخابية، فلا يصح أبداً أن يتحول منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء أكان المنبر الذي في المسجد أم أي منبر من المنابر الدعوية المستحدثة إلى وسيلة ترويج للانتخابات. لكن للدعاة والعلماء الحق الكامل في ترشيد العمل السياسي وتوجيهه من منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون التنافس على السلطة من خلاله فلا تختلط حينئذ المصالح العامة للأمة بالمصالح الشخصية. لكن بعض الدعاة يرون استخدام المنبر ضرورة للدعوة إلى تطبيق الشريعة وقيام الدولة الإسلامية، بما يعني من مساندة لتيارات إسلامية دخلت معترك الصراع السياسي.. هذا فهمهم ولهم أن يعبروا عنه كما أن لمن يخالفهم حق التعبير عن فهمه، مع ضرورة التأكيد على الفرق بين قضية الدخول في حلبة التنافس السياسي وبين أن يكون للخطاب الإسلامي دور في ترشيد الخطاب السياسي، لأن الخطاب الإسلامي يخاطب السياسة والاقتصاد والاجتماع، لكن ليس من شأن مخاطبته تلك أن يكون جزءاً من التنافس فيه، فلا يتأتى لداعية إسلامي إذا دخل مجال التجارة – وله الحق في ممارسة التجارة دون شك – وليس من حقه استغلال المنبر في الدعاية لمنتجه التجاري بأن يقول إنّ هذا المنتج أقرب إلى رضوان الله سبحانه وتعالى أو أن يقول أن هذا وحده متوافق مع الشريعة الإسلامية وغيره من المنتجات التي في السوق مخالفة لها، على اعتبار أنه أصبح جزءاً من التنافس الموجود في الساحة الاقتصادية؛ وكذلك الحال في الميادين الأخرى. ولكل عالم شرعي بل لكل داعية إذا كان عنده دراية وفهم في موضوع ما وفي رؤية الشرع فيه أن يوجه خطابه في تبيين الصواب من الخطأ وما ينبغي ويحسن مما لا ينبغي ولا يليق، لكن الأمر يختلف عندما يتحول هو إلى جزء من هذا التنافس.
تدين السياسة لا تسييس الدين تدين السياسة مطلوب، لكن تسييس الدين هو الخطأ.
هذه الرؤية لقضية تطبيق الشريعة ضيقة للغاية، لأن الحدود من أضيق أبواب الشريعة عندنا، حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ادْرَؤُوا اَلْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ”. والأصل في الحدود الردع أولاً، فإذا علم الإنسان أن يده ستقطع إذا سرق أو أنه سيجلد لو فعل كذا فإنّه سيرتدع عن فعل المحرمات، ثم جُعلَت الحدود كفارة لها ثانياً. وقد ضيقت الشريعة أوجه إقامة الحد ثم وسعت أوجه الدرء وفتحت باب التوبة مع رد الحقوق أو التحلل منها قدر الممكن، لكن باب الحدود باب صغير جداً في الشريعة الإسلامية وحصر مفهوم تطبيق الشريعة على الحدود خطأ مشترك بين بعض متصدري الخطاب الإسلامي بغير تأهل وبين مناوئي تطبيق الشريعة الإسلامية.
ما أراه في اليمن يحزنني ويؤلمني بصفتي من اليمن، وبصفتي مسلماً وخادماً للدعوة، وبصفتي إنساناً، وهو أمر مقلق للغاية ولا أدري ما بين سؤالك والنشر ما المتغيرات والمآسي التي يمكن أن تحصل في اليمن.. فالشعب في اليمن عانى كثيراً مثلما عانت بعض الشعوب الأخرى، وله مطالب عادلة ويعيش حالة ضنك وفقر وذل وأذى وآلام في بلد فيها الكثير من الخيرات. اختلطت كثير من الأمور وتداخلت التوازنات في اليمن كثير من الناس خرجوا يطالبون بحقوقهم، لكن ما جرى بعد ذلك هو أن اختلط كثير من الأمور وكثير من التوازنات، فلم تعد المسألة الآن فقط [وأرجو ممن يكتب ألا يحذف كلمة فقط].. لم تعد المسألة الآن فقط ثورة تعارك حاكماً أو تعارك نظاماً؛ وإنما أصبحت الآن ثورة مظلومين ضد نظام، وبجانبها أيضاً لعبة سياسية ممن كانوا بالأمس مع النظام، ومنهم من يتهم بالمشاركة في جرائم القتل، ومنهم من يتهم بنهب ثروات الشعب، فإذا بهم اليوم يعلنون أنفسهم ثوريين بل ويتحدثون باسم الثورة ودخلوا في صراع جديد مع النظام الذي كان بعضهم جزءاً أساسياً منه، وكان البعض الآخر شريكاً له في صراعات دموية سابقة. ومنهم من استغل الخطاب الإسلامي بالأمس لإعطاء مشروعية دينية للنظام في اقتتال على السلطة عام 1994 ذهب ضحيته أكثر من ثلاثين ألف يمني، بل لقد وصفوا القتال في صف النظام بالجهاد في سبيل الله، ولهم خطب تتحدث عن كرامات المجاهدين – بزعمهم – ضمن مظلة هذا النظام الذي صرنا نسمع من الأشخاص أنفسهم اليوم خطاباً إسلامياً يعد الثورة عليه أيضاً جهاداً في سبيل الله!وقد تحمد لهم إن صحت النية أنهم أعلنوا الوقوف في وجه الظلم. لليمن خصوصية مختلفة تماماً عن سائر الأقطار فالوضع في اليمن اليوم له خصوصية مختلفة تماماً عن بقية الدول لكون المعركة أصبحت مزدوجة: فهناك معركة ثورة ضد نظام وهناك معركة أصحاب مصالح سياسية واقتصادية ضد النظام. أضف إلى ذلك أن اليمن فيه أكثر من ستين مليون قطعة سلاح تمتلكها القبائل، غير أسلحة الجيش والدولة، كما أن الجيش ليست له عقيدة قتالية واحدة كما هو حال الجيش المصري على سبيل المقارنة، بل هو أيضاً متأثر بالصراعات والتنافسات السياسية الموجودة في البلاد. أضف إلى كل هذا الوضع الداخلي المعقد إذ هناك انعكاسات لما يجري في اليمن على دول المنطقة ومصالح متعلقة بدول العالم الكبرى.فاليمن يقوم على أهم ممر بحري في العالم إن شئت من جهة باب المندب وهو الذي يقابل قناة السويس وإن شئت من جهة الممر الكبير الواسع بحر العرب، وهناك الكثير من المصالح المترتبة على هذا الأمر. كما أن هناك مشكلة القاعدة (والقاعدة موجودة في اليمن ولا ينكر ذلك إلا جاهل بشؤون اليمن) لكن هناك علامات استفهام كثيرة على ظهورها السريع المفاجئ واختفائها السريع المفاجئ تناغماً مع التغيرات السياسية التي في اليمن. الصورة تحتاج إلى متابعة يومية من الداخل وأخطرها الاستهانة بالدم فالصورة الآن كما ترى معتمة للغاية لكن أخطر ما فيها هو الاستهانة بالدم والاستخفاف بحرمة النفس الإنسانية التي عظمها الله سبحانه وتعالى، وهذا أخطر ما نراه اليوم وهو سهولة القتل ليس فقط عند النظام بل عند العديد من الأطراف السياسية المتصارعة اليوم. وهذا هو القدر الذي أنا متأكد منه، أما ما زاد على هذا فلا أستطيع أن أتكلم به حتى أكون واثقاً من دقة كل كلمة أقولها، لأنها تحتاج إلى متابعة يومية لتطورات الأحداث من داخلها، لا مما ينقل في وسائل الإعلام الموالية أو المعارضة أو القنوات الإخبارية التي تملكها دول لها مصالح في توجيه الأحداث الراهنة.
هناك صعوبة في الإصغاء مع تعجل الحلول المشكلة في اليمن وغيره لها حل، وحل واضح جداً، لكن المشكلة أن نفسيات الناس اليوم بسبب شدة وطأة الظلم عليهم وبسبب تسارع الأحداث مع التغطية الإعلامية الموجهة وبسبب تراكمات قديمة ولأسباب عديدة أصبح لدى الناس صعوبة في الإصغاء للحل الذي لا يرون فيه طريق السرعة في الخلاص.. الحل الحقيقي يكمن في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب لأن كل المصائب التي ترونها أمامكم إنما حصلت بسبب نفوس لم تتزكَ، وقلوب لم تراقب الله سبحانه، ولم تتعامل معه عز وجل، ولم تحسن صلتها به تعالى، ولم تمتثل أوامره. فالذي يراقب الله عز وجل لا يمكن أن يريق دماً بغير حق، والذي يراقب الله عز وجل لا يمكن أن يستغل حقوق المظلومين ليسخرها ضمن أطماعه السياسية.. مهمتي أن أبين ما أدين الله به أنه الحق المشكلة مشكلة أنفس تحتاج إلى تصفية ومعاملة مع الله بالدرجة الأولى؛ ومن خلال مجال اختصاص الفقير وهو خدمة الدعوة إلى الله، لا يوجد عندي إجابة غير هذه ولو لم تعجبكم أو تعجب الناس الذين يريدون إجابات بحلول فورية، لكن مهمتي أن أبين ما أدين الله به على أنه الحق.ومع ذلك،لعل خروج الأطراف السياسية المتصارعة ،في هذه المرحلة، من الساحة السياسية أو حتى من اليمن ،فيه حقن لكثير من الدماء.
الأزهر معقد الآمال في الخروج بالأمة من أزمتها دور الأزهر الشريف المرجو انتهاضه في هذه المرحلة معقود عليه الأمل لإخراج المنطقة من النفق المظلم الذي تمر به – رضي بذلك من رضي وغضب منه من غضب – فالأزهر وأمثاله من مراكز التعليم والتربية الأصيلة التي تقوم على الاتصال بالسند النبوي الثابت رواية ودراية وتزكية، هو الأساس والمرتكز الحقيقي الذي يمكن أن يبصر الناس بالمخرج من النفق الضيق. وما حصل في وثيقة الأزهر هو رسالة سريعة توضح مثل هذا الأمر.. إذ كيف استطاع الأزهر بعد فترة الصراع والتصادم الإعلامي في مجلسين أو ثلاثة أن يضم الأطراف المختلفة المتصارعة في وثيقة واحدة ويخرج جميع العقلاء وقد رضوا بها حلاً لاختلافهم.. فهذا مؤشر بسيط لما يمكن أن يكون للأزهر من دور في المرحلة المقبلة. شيخ الأزهر ومفتي الديار مثال راقي لدور العالم الرباني وأسأل الله تعالى أن يبارك فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الذي ضرب المثل الراقي لدور العالم الذي لا يبحث عن النجومية السريعة ولا التصريحات النارية الصارخة، والذي يعمل بصمت على الرغم من كل الكلام الذي يثار ضده والهجوم الذي يستهدفه ليخرج لأمته بشيء افع. كما أسأله جلّ في علاه أن يبارك فضيلة مفتي الجمهورية الشيخ علي جمعة الذي صبر وحلم على الكثير من الجرأة والتطاول على مقامه من أقزام تطفلوا على الخطاب الإسلامي من خلال قنوات فضائية إسلامية – بعضها محل استفهام حول خلفيات تمويلها واستمرارها – ومع ذلك سكت وصبر والتفت إلى مسألة البناء ولم ينشغل بالكلام الذي انشغلوا به. فهذان نموذجان راقيان معاصران للأزهر الشريف. وأقول بصدق إنّه يمكن أن تقام دراسات عليا في مختلف جامعات العالم على الدور الذي يقوم به الشيخ أحمد الطيب والشيخ علي جمعة في مثل هذه المرحلة الحرجة.