الحديث عن الإنسانية قبل التدين والحاجة إلى منظومة قيم أعلى من الإنسان وقابلة للتطبيق الإنسانى يقودنا إلى مفهوم القدوة فى عصر أصبح تأثر الناس بالصور الإدراكية الذهنية لرموز الفن والسياسة والكرة وغيرها من المسلمات البدهية.
هذا وقد أوجد الله، سبحانه وتعالى، الأنبياء والرسل؛ ليكونوا قدوة لأممهم، أى بمهمة تجسّد الرسالة فى الرسول ليُنظر إليه ويُؤخذ بها به، ثم كان سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين ورحمة الله للعالمين النموذج الأعظم فى مفهوم الإنسان الكامل.
فإذا كان الإنسان مكوناً من روح وعقل وقلب ونفس وجسد؛ فإن روحه صلى الله عليه وسلم أنقى الأرواح، وأرقى الأرواح، وأعظم الأرواح صلةً بالملك الفتّاح، وصاحب الروح التى تجلّى الله، عزّ وجلّ، على صاحبها فنظر إلى أنواره القدسية وسبحات وجهه الكريم فى ليلة المعراج، وهو صاحب الروح الأشد تعلقاً بالله وشوقاً ومحبةً.
ثم أفاض الروح النبوى الشريف على الذات النبوية المطهرة، فكان العقل الأرشد فى هذا الوجود، وكانت النفس الزاكية المزكية للنفوس، وكان القلب الذى نزهه الله، سبحانه وتعالى، وكان الجسد مثالًا فى الاستقامة، فرأينا فيه صلى الله عليه وآله وسلم مفهوم الإنسان الكامل.
لهذا نجد فى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» ثلاث خطابات: خطاب الإنسانية البشرية؛ فخطاب الاختصاص والعصمة وسابق الاصطفاء ثم خطاب التوحيد، الأمر الذى يعيدنا إلى عنوان «الإنسانية قبل التدين» بذات الترتيب.
فجانب «مِثْلُكُمْ» فى البشرية هو محل الاقتداء ومظهر كمال الخَلق والهيئة وسمو الخُلق والتعامل التى ستكون محل حديث لاحق، لكن دعونا الآن أن ندرك حال قلبه الشريف فى نظرته إلى الوجود.
لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم رحمةً للعالمين اقتضت أن ينظر للوجود كله بعين الرحمة، يتعامل مع الكل على أساس الرحمة، هذه الرحمة التى تجسدت فى أقوال وتصرفات.
كان صلى الله عليه وآله سلم بكمالٍ ينظر فيه إلى السوى وغير السوى فى حالته البشرية، ينظر بهذا المنظار إلى العاصى والمذنب، فيؤتى بصحابى تكرر منه شرب الخمر لدرجة أن يقول رجل «اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ»؛ فيقول النبى صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
لقد دافع عن السكّير لأن مقتضى الإنسانية ألّا نجعل خطأه مبرر هتك آدميته وإنسانيته، وأن نبحث عن جوانب النور فى داخل هذا الإنسان، وإن كان فى ظاهره ظلمة.
ثم هذا الأعرابى الذى «بال فى المسجد، فقام إليه القوم فانترهوه واغلظوا له، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله دلواً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، فعلّمنا تعظيم الساجد قبل المسجد والإنسان قبل البنيان. وكان صلى الله عليه وسلم، كما فى الشمائل، لا يأنف ولا يستكبر أن يمشى مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضى له حاجته، إن كانت الأمة لتأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت فتنطلق به فى حاجتها.
بل أورد الواقدى فى مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الطريق إلى مكة أمر رجلاً من أصحابه أن يقوم بحذاء كلبة ترضع صغارها وألا يعرض لها أحد من الجيش ولا لأولادها، وفى سنن أبى داوود: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فِى سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَان، ِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ، فَجَاءَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم، فَقَال: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا».