من بلد واحد يخرج الحبيب الجفري وأسامة بن لادن ويحمل كل منهما خطابا على النقيض من الآخر وإن كانا يشتركان في القدرة على التأثير عالميا وإن احتفظ كلاهما بخصوصية ونمط تأثيره.. فأيهما يحتاجه العالم؟ الحبيب الجفري كان له نمط فريد في العرض استطاع من خلاله أن يكسب شريحة عريضة من المشاهدين والمتابعين والمتأثرين به، وبرغم كلّ ما قيل عنه إنّ تأثيره في أوساط الشباب خاصة باب عميقاً، رغم ما يشيع البعض من سطحية عرضه وتكرار موضوعاته، فأيهما أكثر تأثيراً في شباب العالم العربي والإسلام هل هو الجفري أم بن لادن؟ وأيهما يحتاجه العالم اليوم؟أجرينا هذا الحوار مع الداعية الشيخ الحبيب الجفري، وكان هذا اللقاء
بين دعوة الإصلاح ودعوة حمل السلاح الجفري وبن لادن.. أي خطاب يحتاجه العالم؟!
حضرموت لم تبرز خطاب أسامة بن لادن.. نعم أجداده من حضرموت ولكن حضرموت لم تبرز خطابه لأنه لا يرجع في مرجعيته العلمية إلى هذه المدرسة. أسامة بن لادن لا أمدحه ولا أذمه ولكن نحلل من أين جاء منهجه، والشيوخ الذين انتمى إليهم وتعلم منهم أو اتخذهم مستشارين معروفون، ولم يكن أحد منهم من مدرسة ولا من علماء حضرموت، فالرجل لم يدخل البلد إلا مرة واحدة ودرس على يد مشايخ في دولة أخرى. أما كون أبيه من حضرموت وأن اسمه حضرموتي فهذا شيء آخر، أما فكره فلم ينطلق من حضرموت. على أن حضرموت لها تاريخ ناصع في الجهاد الإسلامي، فالذين قادوا الجهاد الإسلامي في إندونيسيا ضد البرتغال والهولنديين وهزموا الأسطول البرتغالي في ساحل حضرموت هم علماء حضرموت، فهم ليسوا أهل الخنوع الذين لم يقوموا بواجب الجهاد، لكن أيضا لهم ضوابط في فهم حقيقة الجهاد.
البعض يرى أنه ثمة انتقادات فيما يخص تغليبك الجانب الروحي بما دفع بدعوتك إلى مغالطات صوفية ينتقدها أهل السنة؟ يقصدون بدع التصوف كالتوسل مثلا؟
أولا السواد الأعظم من علماء أهل السنة والجماعة يجيز التوسل، ومن لم يصدق فليستقرئ، وحتى الشيخ ابن تيمية الذي يرجع إليه من ينتقد التوسل ذكر أنها لا تجوز وذكر مرة أن أكثر العلماء أجازوها ومرة أنها من باب الحلال والحرام وليست من العقيدة.
لكن جعل التوسل مظهرا من مظاهر الخروج على أهل السنة والجماعة هذا هو البدعة، لأنك إن قرأت شرح ابن حجر العسقلاني للبخاري وشرح مسلم وللأئمة الأربعة فالتوسل لديهم مسلك محمود. لكن أجرد لك مفهومي وماذا تقصد بالتصوف؟
هناك مفهومان: المفهوم الصحيح، وهو الذي كان يسير عليه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، فحين يريد أن يمتدح أحدا من أهل العلم والنبلاء قال »الصوفي«، وهو أن التصوف علم من علوم الشرع الإسلامية يعنى بصلاح القلوب كما أن الفقه علم من العلوم الإسلامية يعنى بتبيين الحلال والحرام كما أن التوحيد علم من علوم الشريعة الإسلامية يعنى بشئون العقيدة.. إذا كان هذا هو المقصود فلا عاقل ينكره بل أسال الله أن أكون من هؤلاء.
وإذا كان المقصود هو الشائع اليوم في الأذهان من البدع والمغالطات والمخالفات القائمة وما يفعله بعض النساء والرجال والمخالطة بينهم بنحو لا يقره الشرع وبعض التصرفات الخاطئة التي عرضتها بعض وسائل الإعلام مثل المهزلة التي عرضها برنامج »قبل أن تحاسبوا« في حلقتي التصوف يقدمون مفهوما خاطئا عن التصوف والذي يشارك في وضعه بعض الدعاة جعل الناس تنظر إلى التصوف بهذه النظرة، أنا لا أستحيي أن أقول مشايخي لهم مسلك في الصوفية بل أدعو الله أن أسلك هذا المسلك، ولا توجد حركة فعالة إسلامية لها دور في البناء في العالم الإسلامي إلا والصوفية لها دور فيها؛ فالدعوة والتبليغ مؤسسوها من الصوفية، والإخوان المسلمون مؤسسها حسن البنا دعوته سنية صوفية، فلن تجد حركة إسلامية استطاعت أن تخلف أثرا في العصر الحديث إلا كان لها صلة بالصوفية. وحتى عهد قريب إلى حسن البنا وإلياس الكاندهلوي كان التصوف معناه إصلاح القلب وتصحيح المعاملة مع الله وضبط المعاملات الإنسانية بضابط الشريعة.. فكيف في فترة قصيرة وبوسائل الإعلام ولعبة سياسية صار ينظر لهذا الأمر على أنه منكر؟ الأمر يحتاج لإعادة النظر!
ما رأيت نظاما يتخوف منها، فحتى الذين طلبوا منا المغادرة في مصر قالوا: لا تحفظات عليك كمنهج، الدعوة ليست بها ما يخيف. أحيانا الظروف التي تمر بها الأمة والأولويات في نظر بعض الأنظمة في العالم الإسلامي بكثرة الأحداث وتتابعها، حتى فقد الكثير منها القدرة على استقصاء ما يدور، وجد بسببها هذا النوع من التصرفات، إلا إنني أتوقع أن المرحلة المقبلة ستنضج القرار في العالم الإسلامي والقرار الذي لا ينضج لن يكتب له البقاء.
هذا الخطاب هو الأصل فيمكن أن نسميه خطاب تجديد وليس بجديد فهو الأصل والأقرب للفطرة إلى سلامة الخطاب الإسلامي وتجد القلوب تنفتح له.. حدثت أحداث سبتمبر وأنا هناك، وفى نفس اليوم كنت في فرجينيا متوجها إلى نيويورك ومررت بالبنتاجون قبل أن يضرب بساعة إلا ربع؛ فلما وجدت المطارات أغلقت عدت ثانية إلى منزلي وشاهدت ذيل الطائرة وهو يحترق.
التوتر الذي حصل لم يحل بين المتكلم (الحبيب) وبين أن يوصل خطابه.. ففي اليوم الذي سافرت فيه جاءني شاب أمه بوذية وهو مسلم ومعه شاب من أصول فيتنامية وأخته كاثوليكية وصاحبته يهودية وهو متحير، والحمد لله بعد ساعتين من التحدث نطق الرجل الشهادتين.
العالم الآن متهيئ لخطاب إسلامي بألسنتنا وبأعمالنا؛ فمثلا أن يقوم مسلم بسرقة أموال من أمريكا قبل مغادرتها ويقول هذا مال كفار حلال.. هذا سلوك يتنافى مع الإسلام، نحن نحتاج بل يجب أن نخرج من مرحلة الانهزامية في الصراع، فنحن في مرحلة خنوع واستسلام أو عنف بغير ضوابط، لا بد أن نتحول من أرض تفاعل مع ما يحدث إلى فاعلين في أراضيهم لا بالقتل والدمار ولكن بأداء مهمتنا الأصلية وهي الدعوة إلى الله.
هذا الكلام الذي تقوله صحيح وهذا يحتاج إلى إيجاد توازن بين الخطاب التربوي العام التجريبي وبين الخطاب المتعلق بالفتوى والتعليم.. السؤال كيف يقيّم العالم الذي يصعد لوسيلة الإعلام؟
لا يوجد لدينا منهجية إعلامية في العالم الإسلامي تحدد من يبرز في وسائل الإعلام كمرجعية.. لا توجد إلا في بعض الضوابط الأمنية! كما أن بيت الفتوى يعاني من أزمة كبيرة في العالم الإسلامي، أزمة داخلية تتعلق بداخل بيت الفتوى وأزمة خارجية تتعلق بالمسلمين الذين يحيطون ببيت الفتوى في العالم الإسلامي.
أما الأزمة الداخلية فتتعلق بضوابط تصدي طالب العلم أو العالم للفتوى، كانت في السابق ترجع إلى الشيخ المفتي العالم الذي وصل من الاتساع في الفقه والمكنة والتحقيق إلى الحد الذي يتأهل به للفتوى ويؤهل من يليه.. فكان التأهيل بتلق وأخذ، وبارتباط وتحقيق، فأصبح الآن محالا إلى المنهجية الأكاديمية في تعليم الشريعة ..وهذه المنهجية ليست سيئة كرافد ولكنها غاية في السوء كبديل لمسألة التلقي والأخذ من المشايخ والسند المتصل. والمذهبية والاجتهاد أصابهما شيء من الاهتزاز بسبب الصراع الذي دار بين المتمردين على المذاهب وبين المتعصبين لها والمسلك الوسط إقامة المذهبية بضوابطها الصحيحة، وأيضا النظر إلى مستجدات العصر ومتطلباته ما بين مستجدات ومتغيرات لها أثر في الحكم، فالحكم قد لا يقوم على نص فقط ولكن على متغير في الواقع.. مستجدات أخرى لا تتعلق بها وهى إعادة النظر في أحكام صار الناس يطالبون بأن يعيدوا النظر في أحكامهم فنحن نسمع بمرجعيات كبيرة في العالم الإسلامي تصدر فتوى قبل ٥ سنوات بتحريم أمر ثم لم يتغير شيء من معطيات تحريمه فإذا بها تصدر فتوى أخرى بإباحته! فما الذي حدث؟ وما الذي تغير في بيت الفتوى؟ هناك أيدي تحاول أن تطوع بيت الفتوى.
أيضا هناك أزمة خارجية في فهم المسلم -سواء أكان عاميا أو مثقفا؛ غنيا أو فقيرا ..الكل نظرتهم للفتوى لم تعد مثلما كانت. فقديما كنت آخذ الفتوى لأقيم بها وضعي والآن آخذ الفتوى لأبرر بها وضعي! فالمصيبة لا تقتصر على ناحية فقهية بل المصيبة هي عجز الأمة على أن تنتقد وضع الواقع الذي تعيشه.
هناك تقدم حسن في وسائل الإعلام.. فقد بدأت تعطي مساحة أكبر للطرح الديني وبدأنا نشعر بتجاوب الناس وبدأت تتسع دائرة الطرح الديني، والإشكال لا يتعلق بالجانب الدعوي في الإعلام ولكن في الجانب التشريعي في الإعلام؛ فلا أرضى أن أجلس مجلس فتوى في وسائل الإعلام.. وعرض عليّ ذلك فرفضت حتى وإن كنت درست في الفقه لكني لا أرى نفسي مفتيا أجلس على كرسي الإفتاء، إذن هناك جانبان في الإعلام: جانب دعوي تربوي وروحي وهو بدأ يشق طريقه وبإذن الله يتجاوز باقي العقبات. وجانب تشريعي وهو الذي يحتاج الإعلام إلى أن يتدارك نفسه فيه وأن يرجع إلى مرجعية صحيحة به وأن يرجع إلى من يفتي .. وقد شاهدت أستاذنا الشيخ علي جمعه أستاذ أصول الفقه في الأزهر الشريف بدأ يأخذ كرسيه في بعض وسائل الإعلام ليجيب على الفتاوى، هذا الشيخ نستمع إليه ونحن مطمئنون.. هو ليس معصوماً ولكنه عالم ومتخصص.. كذلك د.أحمد بن عبد العزيز الحداد كبير مفتيين في أوقاف دبي رأيته يتصدر للفتوى في بعض وسائل الإعلام هذه خطوات إيجابية يجب أن تمنهج وتحول إلى مسلك بعد ذلك.
هناك مشكلة أخرى كبيرة وصميمة، وهي فهمنا لعمل الإعلام؛ فليست وظيفته تلميع نجوم في أي مجال من المجالات وكون الإعلام جعل هذه وظيفته فهو فاشل وإن أبرز نجاحا في بعض مراحله.. ولكن واجبه تشكيل وبناء النفس الإنسانية فإذا ولي الإعلام من يراعي حق الأمانة كان سببا في اهتداء أمة.. وإذا ولي الإعلام من لا يراعي حق الأمانة فهنا تأتي الكارثة في الأمة .. فليست مهمة الإعلام إبراز نجوم حتى نجعل القضية هل أبرزت نجوما أم لا؟ أم حولت العلماء إلى نجوم أم لا؟ بل المهمة الرئيسة للإعلام هي تشكيل عقول وفكر الأمة وبناء النفوس فإذا اقتضى بناء الأمة إبراز من ينفع الأمة.. إبرازا وليس تلميعا، فالإبراز وضع الشيء في محله، وأستغرب أن أحدا لم يعلق بذلك على إبراز نجوم الغناء كالذي تقوله على علماء الدين، بالرغم من أن كثير منهم ـ وليس كلهم ـ لا يصلحون أن يكونوا فنانين حتى بالمقاييس الموسيقية!
إن اجتذاب المشاهد في برامج لا تمس كرامة الإنسان ودينه فهذا ليس بخطأ، ولكن المهم في قلب الذي يتكلم أو الذي »يبرز« ألا يعيش حالة التفكير في كيفية اجتذاب الآخرين؛ لأن هذا ضعف في النفس البشرية يحوله لمشتغل بجذب الناس إليه، بدلا من أن يشتغل بجذب الناس إلى الله سبحانه وتعالى فيتحول دون أن يشعر من داعي لله إلى داعي لنفسه.. لا بد لمن يحاول أن يخدم في هذا الجانب أن يكون ذلك على نحو لا يمس احترام العالم أو توقير العلم أو الآداب والأحكام الإسلامية، فمثلا لا أعرض صورة لفتاة تبرز مفاتنها حتى أقول إني أستطيع أن أخاطب هذه الفتاة وأمثالها فهذا خطأ لأن الشريعة لا تقره.. وفي نفس الوقت ليس من العيب أن يكون في المجلس وفى طريقة طرحه ما يستطيع أن يخاطب أمثالها لأن هذه وسيلة رائجة في الدعوة المهم أن تكون منضبطة بضابط الشريعة .. وقد رأى أكثر من علم من أعلام الأمة أن عظمة منهجنا في أنه يستطيع أن يتعامل مع كل الوسائل والمتغيرات لكن لا يتأثر بها .. ميكافيلى يقول »الغاية تبرر الوسيلة« ولكن شيخي الحبيب أبو بكر بن علي المشهور يقول: »نحن لا نقول الغاية تبرر الوسيلة ولكن نقول الغاية تقرر الوسيلة« فإذا ارتضينا أن الغاية تقرر الوسيلة استطعنا أن نجمع بين أمرين، القضاء على الأثر الموروث التقليدي وبين الاستفادة من الوسائل التي أتاحها الله لأهل العصر وهى الوسيلة، فلا أرى أن الداعية يحتاج إلى أن يخلع جلبابه وعمامته حتى يؤثر، وكذلك لا يحرم عليه الدعوة بالبذلة لكن انشغال الناس بهذا الأمر هو المشكلة فنكون مثل جحا وولده وقصتهما مع الحمار؛ فإذا نظر الناس إلى أخي الأستاذ عمرو خالد وغيره من الذين يلبسون البذلات والكرافتة ولا يرتدون الجبة والعمة يقولون: ما هذا؟! .. دعاة آخر زمن! دعاة talk show وإذا نظروا إلى المتكلم (الحبيب الجفري) بجبته وعمامته في الكلام قالوا: ما هذا التخلف؟! جاءنا من القرون الوسطى! يلبس هذه الثياب ليجذب أنظار الناس ليدجل عليهم! فما المطلوب؟!
إذا عشنا هذه العقلية في طريقة الدعوة وفى أداء مهمتنا فلن تقوم الأمة.. شق طريقك طالما أنك لم تقطع صلتك بالأصل؛ بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. وطالما أن الشريعة تبيح لك فقم واعمل ولا تبالي بمن ينتقدون.. اشتغل واعمل ولن يوقفك أحد من هؤلاء المنتقدين.
أعجب ممن ينادى بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين وممن يقول إنه ينبغي الاستفادة من هذه الوسائل ولا نقول إن الذي اخترعها كفار ثم يغضب بعد ذلك إذا رأى من يستخدمها لإيصال الدعوة إلى عقول وقلوب الشباب، ولا أدرى ما الهدف من هذا النقد؟ فمثلا إذا ظهر الداعية في قناة مثل اقرأ قالوا ظهر في قناة متعجرفة ودينية فمن سيسمعه بعد أن حصر نفسه في هذه القناة! وإن ظهر في أخرى مسيحية أو شيعية أو.. أيا كانت قالوا: ما هذا؟! هذا ليس له مبدأ!.. ماذا تريدون؟… هي نفس قصة حمار جحا.. الأمر كما قلت لك الغاية تقرر الوسيلة فلينظر ما هي الغاية؟ هل هي إيصال الدين؟ وهل يجوز أن أوصله على منبر غير مسلم؟.. أقول: نعم إذا لم يتدخل في المنهج. فلم لا، طالما أنها تصل، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو، بل ويصلي، في الكعبة بين الأصنام!