الحبيب علي الجفري يكتب: أول الطريق توبة ١٨/٩/٢٠08 في هذا المقال، نضع أول قدم لنا في طريق السير إلي الله تعالي بعد حصول همة وباعث السير في القلوب، فأول قدم تقبل علي الله تعالي هي قدم تصحيح التوبة.
والتوبة مأخوذة من دلالات الأوبة والرجوع، وهي في حقيقتها تحتوي علي معان ثلاثة، تمثل في حال اجتماعها كمال التوبة وصحتها: العلم والحال والفعل.
فالتوبة بالمعني الأول، هي علم بأني عبد واقف بين يدي الله تعالي يخاطبه بغير واسطة ولا ترجمان، يقول لي: عبدي.. أتذكر يوم كذا.. ساعة كذا، يوم استترت عن أعين خلقي واستحييت من نظرهم إليك، وواجهتني بما لا يرضيني من العمل، أين كان نظري منك؟ لِم جعلتني أهون الناظرين إليك؟ أاستحيت من خلقي ولم تستح مني؟!
التوبة بمعني العلم بأن كل حركة وسكنة والتفاتة ونظرة مكتوبة ومسجلة، وإن كانت صدورنا لتضيق بهذا المعني، لأننا نأخذها بمفهوم الملاحقة أو المتابعة والحساب، إلا أن لها مفهوماً ودلالة أعمق وهي معني من معاني إكرام الله تعالي لك وإجلاله، أما رأيت أهل الدنيا إذا بلغ بعضهم منزلة ما لديهم، تهافت الناس عليهم، يسجلون لهم كل كلمة يقولونها وكل حركة يقومون بها، وغاية ما يهتمون بهم ساعة أو أقل ثم ينفض كل واحد إلي حال سبيله؟!\r\n
لكن أنت مهم عند الله جل جلاله، ومن علو منزلتك ومكانتك عند الله، أن وكل ملكين نورانيين، لا يعصيان الله ما أمرهما ويفعلان ما يؤمران، وكل همتهما أن يسجلا كل كلمة تنطق بها في كل أحوالك، «مَا يلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتيد»، لأنك صاحب منزلة، وكل أفعالك مضبوطة ومحسوبة ومسجلة، وستعرض بين يديك أمام الله عز وجل يوم تنشر الصحف وتتطاير الكتب، وهذا علم آخر.
سأل أحد الصالحين عالماً من السلف: أيغفر الله لي ما ارتكبت من معصية؟ فقال له: نعم إن تبت وصدقت، فانفرجت أسارير وجهه وشكر الله تعالي وانصرف مسروراً، إلا أنه ما لبث أن عاد واجماً ليسأل: أو كان يراني عندما كنت أعصيه؟ فأجابه: نعم، فصرخ صرخة وخر ميتاً من ساعته.
أتعرفون ماذا جري لهذا الرجل؟ إن هذا الرجل كان مشغولاً في بداية أمره بمسألة الجنة والنار، ولا يوجد مؤمن يستهين بقضية الجنة والنار، لكن لما سكن روعه وتيقن أن الله سيغفر له إن صدق،
عرف في داخله معني أعمق وأرقي، وهو معني المعاملة مع الله.. معني أنه كان ينظر إلي وأنا أفعل كذا وكذا، بل سترني وكان بالإمكان أن يفضحني علي رؤوس الأشهاد، واستمر يواصلني بنعمه ويكرمني ويعطيني، فهذا كله يبعث الشعور بالندم علي التفريط في جنب الله وعلي الاجتراء علي الله، وهذا الإحساس الذي يكون في القلب والمعبر عنه بالندم، هو الحال أو المعني الثاني من معاني التوبة.
فالمعني الثاني من معاني اكتمال التوبة، هو الشعور بالندم علي ما قدمت يداي، وقد كان بعض السلف يمسك لحيته ويقول : «وا سوأتاه.. وإن عفوت»، وهذا الشعور الراقي بالندم يورث في النفس المعني الثالث للتوبة، وهو قرار أن أتوقف عن المخالفة وألا أعود إلي المعصية أبداً.
والمعني الثالث هو الإقلاع عن المعاصي، والعزم علي عدم العودة، لأن العلم والحال يورثان قراراً بالإقلاع عن المعصية، وهو المقصود من تصحيح التوبة وكمالها وتمامها إن لم تتعلق بحقوق الناس، فإذا تعلقت بحقوق الناس وجدنا معني رابعاً لكمال التوبة، وهو رد الحقوق إلي أهلها.
إذا أكلت أموال الناس بغير الحق، فعليك أن تردها إليهم، وإذا لم يعد لديك ما ترده، عليك أن تطلب العفو منهم ، فإذا لم يسامحوك فأنت في ورطة، وعليك أن ترجع إلي أمر الله: لعله أن يستعفيهم الحق سبحانه وتعالي، إن رأي منك الصدق يوم القيامة، فيكرمك عز وجل بأن يرضي من أسأت في حقه، وعجزت عن رد الحق إليه فيعطيهم مقابل المسامحة، أما الحقوق فلا تسقط لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال العلماء إن من دواوين الذنوب ما قد يغفر، وهو جميع المعاصي والذنوب التي بين العبد وربه، إن حصل الندم الصادق والحقيقي الذي أثمره العلم وأردف بالإقلاع والعزم علي عدم العودة ، وهناك ديوان لا يغفر وهو الشرك الأكبر – والعياذ بالله – وهو الاعتقاد بوجود إله مع الله، فمن وجد عنده الشرك الأكبر لا يغفر له، «إِنَّ اللّهَ لاَ يغْفِرُ أَن يشْرَكَ بِهِ وَيغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يشَاءُ»، غير أن أمتنا لا يوجد فيها شرك أكبر،
فقد جاء في الحديث الصحيح: «إني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا». وهناك ديوان لا يترك وهو الحقوق المتعلقة بالخلق، وهي التي ينبغي علي السالك إلي الله أن يكون جاداً وصادقاً مع نفسه لأدائها.
وقد يحلو للبعض التمييز بين الكبائر والصغائر، بين من قال إن الكبائر أربع أو سبع، أو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يرحم الله ابن عمر جعل الكبائر سبعة وهي إلي السبعين أقرب»، إلا أن الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن كل ما وجب فيه حد فهو كبيرة،
وكل ما نص القرآن علي تحريمه هو من الكبائر، وأن الموبقات من الكبائر.. لكن انتبه أيها المريد السائر في طريق الله إلي معني آخر وهو حال القلب مع المعصية وبعدها.
فالإصرار علي المعصية كبيرة، والاستهانة بالمعصية كبيرة، وإن صغرت، بل كان من الصالحين من يستغفر من الأمور المباحة، لأنه يري أن حاله مع الله هو طلب ارتقاء في سائر الأعمال،
فإن عمل أمراً مباحاً دون أن ينوي في عمله هذا، طلب القرب من الله تعالي استغفر منه، فما بالكم لو علمتم أنهم كانوا يستغفرون الله تعالي من الطاعات، فيتوبون من معني قد يرد علي قلوبهم عند الطاعة أو لم يشعروا بفضل الله أن وفقهم لتلك الطاعة، ولا أجد حاجة لأن أقول إن رابعة العدوية – يرحمها الله – كانت تقول: إن استغفارنا يحتاج إلي استغفار.
فهذه كلها من دلالات تصحيح التوبة في السير إلي الله تعالي في منازل ومراتب لا منتهي لها، وكلما ارتقيت في القرب من الله معني، تطلب التوبة من المعني الذي قبله، قال أحدهم لرابعة العدوية: ادعي الله لي أن يتوب علي، فقالت: بل أدعو لك أن يتوب عليك الله لتتوب، فبداية الطريق والتوبة من الله تعالي: «ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ لِيتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
فإذا أقبلت علي الله ثم حصلت منك المعصية ارجع إلي الله.. ثم حصلت ثانية ارجع إلي الله.. والثالثة.. والرابعة.. والعاشرة.. ارجع إلي الله.. هل لك في تلك الساعة غيره؟