الحبيب علي الجفري يكتب: البداية: طهارة القلب ٢٠/٩/٢٠٠٨ لعلك أخي الحبيب قد أقبلت علي الله عز وجل واستشعر القلب حقيقة الندم، ولعلك قد قررت أن تبدأ حياة السير إلي الله مع عظيم الشوق إلي قربه، حياة تختلف عما قبلها، وقد سئل أحد الصالحين: أحقاً علامة صدق التوبة ألا تنسي ذنبك؟ قال: بل علامة صدق التوبة أن تنسي ذنبك، فذكر الجفاء في ساعة الصفاء من الجفاء.
فيا من صلي لله وأقبل وتاب، هلم إلي الخطوة الأولي في ميدان التوبة، وهي أن نقبل علي طهارة القلب والباطن، لكن لم نبدأ من القلب بعد التوبة؟ يكفي لتستشعر طرفاً من أهمية شأنه أن «أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِي صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يحْلِفُ: لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» (البخاري ٦/٢٦٩١ برقم ٦٩٥٦)،
فجعل أعظم ما يقسم به صلي الله عليه وسلم أحوال القلوب مع تجلي الله تعالي عليها، لأن الله تعالي اختار موضعاً واحداً منك لكي يكون محل نظره وهو قلبك، وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ لاَ ينْظُرُ إِلَي أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَي صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ ينْظُرُ إِلَي قُلُوبِكُمْ» ( مسلم ٨/١١ برقم ٦٧٠٧).
كل واحد منا يحب – وليس هذا بحرام ولا بخطأ – أن يزين موضع نظر الناس إليه، فهو يعلم أن الناس ينظرون إلي صورته ولباسه، فيتأكد من نظافته وطيب رائحته وحسن هندامه، لأن للخلق منزلة في قلبه، وسيأتي الحديث عن كيفية التخلص من حب المنزلة في قلوب الخلق، لكن ما يهمنا في هذا المقام هو كيف نحسن من مكان نظر الله تعالي فينا وهو القلب.
إذا تكلمنا عن القلب في علم السلوك إلي الله، فليس المقصود به تلك العضلة الصنوبرية التي تضخ الدم، مثلما لا نقصد بالعقل ذلك الذي يرسل ويتلقي الإشارات، ولا نقصد بالنفس مستجمع الانفعالات ولا بالروح مظهر الحياة والحركة التي نعيش عليها، فالقلب والعقل والنفس والروح في علم السير إلي الله هي تلك اللطائف الرحمانية التي ميزك الله بها عن بقية الخلائق، فما الذي ميزنا الله به؟
إن الميزة التي تميزك عن سائر الموجودات هي ما أودع فيك من سر الأمانة: «إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَي السَّمَاوَاتِ والأرض وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ»، وسر الأمانة هو المقصود هنا بالقلب أي موضع القرار فيك. ومن المعاني التي يحتويها القلب معني الإدراك أي نتاج ما يرسله المخ من إشارات ونتاج ما تتفاعل به مع من حولك، فيصبح إدراكك متبصراً، وينتج عنها قرار وهو الإرادة، فالإرادة نتيجة الإدراك وهي البصيرة، وهي مقصود المريد السائر إلي الله تعالي، « فَإِنَّهَا لا تَعْمَي الأبصار وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».
ثم يأتي الحديث القدسي: «مَنْ عَادَي لِي وَلِيا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَي عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَي مِمَّا افْتَرَضْتُه عَلَيهِ، وَلا يزَالُ عَبْدِي يتَقَرَّبُ إِلَي بِالنَّوَافِلِ حَتَّي أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يبْصِرُ بِهِ، وَيدَهُ الَّتِي يبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِينَّهُ، وَلَئِنْ استعاذني لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» (البخاري ٥/٢٣٨٤ برقم ٦١٣٧)، فهذا إذاً يسمع ويبصر بالله سبحانه وتعالي، وهذا الذي نتحدث عنه في هذا المقال، لأن القلب ليرتقي في ميدان الإدراك إلي الإرادة يحتاج إلي جد وعمل، والعمل هو السلوك والسير إلي الله عز وجل.
إن أول ما يحتاج إليه القلب للترقي هو أن نغلق منافذ الظلمة عنه، أي المنافذ التي يتلوث منها القلب وتتراكم عليه الأدران، وهي خطوة أولي مهمة للتنقية قبل معالجة أمراض القلوب من الحسد والكبر والرياء والعجب، فلابد من إحكام إغلاق النوافذ التي تدخل الظلمة علي القلب، وهي علي نوعين: منافذ حسية محسوسة تستلزم طهارة الظاهر، ومنافذ معنوية تستلزم طهارة الباطن.
فالمنافذ الحسية من البصر والسمع والنطق كلها منفتحة علي القلب، لأن ما تنظر إليه تنطبع صورته في قلبك، تماماً مثلما تلتقط الصورة وتحفظ في ذاكرة الآلة، وبالتالي فإذا نظرت إلي شيء مظلم انطبعت صورته المظلمة في قلبك، وإذا نظرت إلي شيء نوراني انطبعت صور نورانية في قلبك، وإذا نظرت إلي شيء غير قادر علي أن تحكم عليه أهو مظلم أم نوراني كشجرة أو بيت أو نهر، فاسأل نفسك بأي زاوية نظرت إليه؟
أنظرت من زاوية التفكير بعظمة من خلقها وهذه نافذة نورانية ونور يدخل إلي قلبك؛ أم نظرت نظرة غفلة أو ربما شغلتك عن فريضة أو عمل معروف وبر فصارت ظلمة في القلب؟
تأمل كيف تؤثر العين في القلب فتملؤه نوراً أو ظلمة: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها من خوف الله أثابه إيمانًا يجد حلاوته في قلبه» (الحاكم ٤/٣٤٩، رقم ٧٨٧٥ وقال: صحيح الإسناد)، «إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» (الطبراني ١٠/١٧٣، رقم ١٠٣٦٢)، فالنظر يؤثر في القلب وهو أول نافذة تحتاج منك إلي عناية.
فمن أنواع النظر المذموم الذي يترك ظلمته علي القلب، ما يتعلق بالشهوات كالنظر إلي العورات في الطريق أو التلفاز أو الإنترنت، وما يتعلق بالنظر إلي الدنيا بعين التعظيم، فليس بخطأ أن تنظر إلي ما خلقه الله من جمال بعين الإجلال، فهذا صنع الله الذي أتقن كل شيء، لكن الإشكال أن تنظر إلي الشيء ذاته بعين التعظيم وتعقد آمالك علي هذا الشيء، وقد نهينا أن ننظر إلي الدنيا بعين التعظيم..
ثم انتبه إلي خطورة النوع الثالث من النظر المذموم وهو النظر إلي أحد خلق الله بعين الاحتقار، أن كان أقل منك مالاً وولداً، أنت سالك ومريد لله وتنظر إلي الناس بعين الاحتقار لأن لديك مالاً أكثر منهم،
والمال هذا حلاله حساب وحرامه عقاب.. أم لعلم عندك، وهو حجة لك أو عليك… أم لجاه ونسب، فأبو لهب أعز منك نسباً وحسباً، أم لطاعة تري فيها فضلاً لك علي الناس، وتنظر للمذنب والعاصي بعين الاحتقار؟
ورد في الأثر أن عابداً من بني إسرائيل كانت تظله سحابة أينما سار التقي في الطريق بأحد العصاة، فأعرض كل منهما عن الآخر ومضي في سبيله، إلا أن السحابة تخلت عن العابد وأظلت العاصي، لأن العابد أعرض استكباراً ورأي لنفسه فضلاً بالطاعة، وأعرض العاصي حياء من الله تعالي.
أصدقك القول.. حافظ علي عينك لأنها غالية، أتعرف لم هي غالية؟ لأن الله خلقها لتنظر إلي وجهه الكريم، فيا من جعل الله فيك عضواً خلق للنظر إلي وجهه الكريم صُن هذا العضو، فإن وجه الله أكرم من أن يباح لعين رضي لها صاحبها بالهوان والنظر الحرام .