إن تكرار ظهور تلك الرسومات وتنقلها عبر البلاد الأوروبية، والتصريحات الرسمية التي رافقتها، والتذرع بحرية التعبير عن الرأي ليمثل نقطة كاشفة تحتاج إلي إعادة نظر، فلا يصح عزل الحدث عن سياقه العام ولا الانسياق وراء ردود الفعل الانفعالية، بقدر ما يحتاج الأمر إلي معالجة تستكشف الأسباب والدوافع ولا تقف عند حدود الأعراض والمظاهر، فهي تعبير قد يكون علي درجة عالية من التحقق للصورة النمطية التي يراد ترسيخها لعالمين ينفصل كل منهما عن الآخر، مع أن الإسلام يشكل اليوم جزءاً من الهوية الثقافية المتعددة لأوروبا بنفس الدرجة التي يمثل فيها الغرب جزءاً من الوجود الإسلامي.
إن أولي مسائل التعامل مع تلك الأزمات هي طرح ماذا تعني حرية التعبير عن الرأي في السياق المطروح علي أنه السياق الأوروبي؟، إذ إن تعريف المواثيق الدولية والدساتير الوطنية لحرية الرأي والتعبير تجعل من الصعوبة بمكان الاتكاء علي هذا المبدأ في الدفاع عن الرسومات الكارتونية.
لا أحد ينكر أهمية الحرية الراشدة في التعبير عن الرأي وكونها من الحقوق اللصيقة بالإنسان التي حث عليها الإسلام حتي في المسائل الإيمانية، بل هي ليست مجرد حق للإنسان له أن يطالب به أو يتنازل عنه، بل هي واجب وفريضة وأمانة تدخل ضمن القطب الأعظم للدين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يمثل محور خيرية الأمة ودورها وفاعليتها وشهادتها علي غيرها من الأمم والشعوب.
بل إن مشاركة كل أفراد الأمة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم مسألة تحظي بالتقدير العام حتي لو كانت لها نتائج سلبية كما في غزوة أُحد، وأن توصل الأمة إلي قرار خاطئ بالشوري واستعمال حرية التعبير عن الرأي لا يجوز أن يحتج به أحد لتعطيل المبدأ والعسف به، لأن مواجهة الأمة نتائج الخطأ ومعرفة أوجة الخلل أولي من التعامل مع نصر تحقق بمخالفة رأي الجماعة أو ضد إرادتها.
وبطبيعة الحال هناك حاجة متزايدة للإدراك الإيجابي للعولمة ودورها في تحويل العالم إلي قرية صغيرة سرعان ما تتبادل الآراء والأفكار وتنتشر عبر مختلف وسائل الإعلام، وعلي ضرورة العمل علي جعل كل العالم المتعدد الديانات والأفكار والمذاهب والثقافات قادراً علي تحقيق التعارف الحضاري في أسمي درجاته، وهو التعارف علي ما يفرق وما يجمع بين الشعوب والحضارات في المجالات الثقافية والدينية والاجتماعية، وفهم وتقبل واحترام تلك الخصوصيات الحضارية، خاصة ما أجمعت الأديان السماوية والعقول السليمة علي قبوله من الأفكار والأنظمة والثقافات.
مثلما يتعين علينا الاعتراف بأن أسوأ ما صدرته العولمة هو الليبرالية الثقافية أو الاستناد إلي «القيم الأوروبية»، وجعلها معياراً حاكماً علي قيم الجماعات الأخري، أسوأ ما في تلك الثقافة هو التذرع بخصوصياتها لانتهاك خصوصيات الغير وتسفيهها والعمل علي تدميرها والقضاء عليها بزعم الحرية وضرورة التعبير، وإقرارها بقدسية ما هي عليه من قيم وحريات وسعيها إلي تشكيل قيم الجماعات الأخري علي هوي قيمها وحرياتها هي «أحمد زكي عثمان، هوامش علي أزمة الرسومات الدانماركية، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ٢٠٠٦».
وهذه الأمور والمخاوف يدركها كل من يتعامل مع رموز الحضارة الأوروبية، ولا تقتصر علي كونها هموما عربية وإسلامية، فالكل يحذر من محاولات فرض المنظومة الثقافية الأوروبية علي عالمه في المشرق والمغرب، وحتي داخل القارة العجوز نجد ذات التخوف من هيمنة النمط الأمريكي للثقافة والحياة علي القيم التي دافعت عنها فرنسا طويلاً.
فالمسألة التي تثار هنا هي مسألة تلاعب بالمقدسات تحت ذرائع ثقافية وحضارية، لماذا هذا الاتجاة نحو التلاعب بهذه الطريقة المهينة الماسة بكل ما هو مقدس عند المسلمين، ابتداء من مسألة الحجاب في فرنسا ثم الرسومات الكارتونية التي تعاود الظهور علي فترات كالبركان الذي يخمد حتي ينساه الناس فيثور من جديد في إصرار وعناد غريبين، وإلي إقحام باباً الفاتيكان للإسلام بشكل فج في محاضرة لا علاقة لها من حيث الموضوع به.
ما نود التأكيد عليه أن تذرع المجتمعات الغربية بحرية التعبير مردود عليه، فمن المغالطة الالتفاف والدفاع عن الإساءة التي تمثل في الخطاب الثقافي الغربي نوعاً من خطاب الكراهية، بحجة حرية التعبير عن الرأي، فالصلة بينهما منفكة ولا يصح الاستناد إليها مبرراً، بأن هناك ـ كما يري سري نسبية في كتاب الحرية بين الحد والقيد ـ فارقاً بين حالتين في مجال الإساءة: أولاها التعبير عن الرأي مع الاضطرار إلي استخدام ألفاظ وكلمات جارحة أو من شأنها أن تمس شعور البعض،
فالمقصد الأساسي هنا هو التعبير عن الرأي مع عدم القدرة علي تجنب تلك الألفاظ والعبارات، لكن هناك حالة من الإساءة أنكي من ذلك وهي اختيار أسلوب وكلمات كان في الإمكان له ألا يختارها، ومن ثم يكون اختياره ذلك الأسلوب أمراً مقصوداً عنده، أي أنه يقصد التعبير عن الرأي بانتقاد العقيدة ويقصد في الوقت نفسه المس بشعور المسلمين، ولم تكن الثانية منهما مجرد وسيلة اضطر إلي استعمالها، بل غاية اختارها من بين عدة طرق ممكنة.
فضلاً عن أن الحضارة الأوروبية ذاتها تعرف العديد من القيود علي حرية التعبير، لعل من أهمها الابتعاد عن الكذب وشهادات الزور وعدم الخيانة وخطاب الكراهية وازدراء الأديان، فما هي تلك الضوابط والقيود، وكيف نتعامل مع تلك الظاهرة؟.