الحبيب علي الجفري يكتب: تمييز خواطر الشر 24/٩/٢٠٠٨ كان الحديث في المقال السابق عن الخواطر المعنوية التي تفد علي القلب فيرتقي القلب بسبب منها أو يتأخر، وأن هناك ثمة حاجة إلي ميزان ضابط نميز به بين الخير والشر، ثم نفرق به بين مصادر الخير ومصادر الشر.
والشروع في الحديث عن ميدان خواطر الخير والشر إنما يعني أن تنتقل من حالة ضعف لا تليق بالسالك إلي الله، يكون فيها القلب تابعاً للخواطر التي تتوارد وتتلاعب، به إلي حالة يقود فيها الخواطر تلك ويضبطها، فهل قررت أن تكون سائقاً لخواطرك أم مُساقاً بها؟ إذا قررت أن تكون ذا منزلة عند الله تعالي تدبر بقلبك فيما ستقرأه الآن.
قلنا إن الإنسان قد يرد علي قلبه أكثر من سبعين ألف خاطر في اليوم والليلة، ومن ثم هناك حاجة إلي إقامة ميزان نعرف به الخاطر الوارد أهو وارد خير، فيكون محل ترحيب ليتحول إلي إقرار وإرادة، أم أنه وارد شر ينبغي التخلص منه ودفعه؟ هناك عدد من الموازين.
أيما خاطر يخطر علي قلبك اعرضه علي ميزان الشريعة بأحكامها الخمسة من الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم، مع التنبيه إلي مسألة خطيرة، مسألة استهانة البعض بأداء السنن بزعم أنها سنة وليست فريضة، فالحق عز وجل جعل لك واجباً وسنة ليعينك علي الترقي، ومكانة السنة عند مريد الآخرة تكاد تنزل عنده منزلة الواجب، فلا يتنازل عن أدب من آداب النبوة، فضلاً عن سنة وردت عن الحبيب عليه وعلي آله الصلاة والسلام.
كذلك فيما يتعلق بترك المكروه، نعم فعل المكروه لا يوجب الإثم، لكن هل حالك مع الله منحصر في أن تأثم أو لا تأثم؟ أم أن لك تشوقاً إلي أن تكون قريباً من الله؟ فالمريد يأنف من المكروه وينفر منه بدرجة تقرب مما يأنف وينفر به من المحرم.
وقد جرت سنة الله تعالي أن من يحوم حول الحمي يوشك أن يقع فيه، والقاعدة الراسخة أن الإنسان لا يكاد يقع في محرم إلا بعد أن يقع في مكروه، وكل صادق لا يرضي لنفسه أن يستدرجه الشيطان أو النفس بذريعة الاستخفاف بالمكروه.
فهذا هو الميزان الأول، أي ميزان الشريعة، لكننا نحتاج إلي موازين أخري إذا أُشكل علينا فهم ميزان الشريعة أو لم نجد من العلماء من نسأل في ذلك الحال، لأنه خاطر يخطر في أي لحظة فيتطلب جواباً عاجلاً.
بمعني هل كان هذا الأمر مستحسناً عند السلف الصالح أم لا؟ وهذا يعني أنه سيكون لك -أيها المريد- ثمة اهتمام كبير بقراءة سير الصالحين، فيتشكل عندك مع دوام القراءة نوع من المكنة والقدرة علي الربط بين الخواطر التي ترد علي قلبك، وما يستحسنه السلف وما يستقبحونه، فهذا هو الميزان الثاني فإن لم يستبن لك فاعرضه علي الميزان الثالث.
إذا وجدت في نفسك خفة ونشاطاً وإقبالاً علي هذا الخاطر، دون أن يكون ذلك النشاط والإقبال نتيجة تأثر بموعظة وإرشاد، فهو في الغالب من خواطر الشر الذي تميل إليه النفس بالهوي، وإذا استثقلت النفس هذا الخاطر وتأخرت عنه -ليس بنصح ناصح وإنما من داخلها ابتداء- فيكون في أغلب الأمر من خواطر الخير.
ذلك لأن الأصل في النفس التي لم ترتق في تزكيتها إلي مرتبة «النفس المطمئنة»، أنها تأمر وتنتهض بالسوء «وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء…» «يوسف – ٥٣»، فإذا حدثتك نفسك بأمر لم يتضح لك في الشرع، ولا وجدته فيما تعلم من مسلك السلف الصالح، اعرضه علي نفسك، فإن وجدت منها خفة ومسارعة إليه فاحذر وتجنب، وإلا فإنه خاطر خير بادر نحوه واطلبه.
فهذه موازين ودرجات ثلاث للتمييز بين خاطر الخير وخاطر الشر الذي يقذف في قلب الإنسان، فإذا تبين لك أنه من خواطر الشر، كيف يمكننا التعامل مع هذا الخاطر؟ وقد سبق أن عرفنا أن خاطر الشر هذا إما وسوسة من الشيطان أو من هوي النفس أو استدراج وعقوبة من الله تعالي.
ثم تظل لدينا إشكالية أخري وهي ما فائدة أن نعرف من أين أتي لنا خاطر الشر هذا؟ ألا يكفي أن أعرف أنه شر فأتجنبه؟
لو كانت المسألة بهذه البساطة لانتهي الإشكال، إلا أن السير إلي الله عظيم القدر يشق علي أعدائك – النفس والشيطان- أن يروك سائراً فيه، كما أن كل نوع من أنواع الخواطر له علاج يتناسب معه بحسب مصدره، فالخاطر الذي يأتي من الشيطان له علاج، والذي يأتي من النفس له علاج، وخاطر العقوبة والاستدراج له علاج.
قال العلماء: عندما تعلم أنه خاطر شر تأمل في هذا الخاطر، هل يصرفه ذكر الله تعالي؟ إن قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. لا إله إلا الله وحده لا شريك له وصليت علي المصطفي صلوات ربي وسلامه عليه، إن اشتغلت بشيء من ذكر الله هل ينصرف عنك هذا الخاطر أم لا؟
قالوا: إذا انصرف هذا الخاطر عنك فهو من الشيطان يقيناً، فيهرب وينفر عند ذكر الله ولا يستطيع أن يباشر وساوسه لقلب ذَكَرَ الله عز وجل.
هل خاطر الشر هذا يصر علي معصية بعينها أم كلما انصرفت عن واحدة أغراك بأخري؟
إن الشيطان لكم عدو لا يبالي بأي وادي وبأي نوع معصية هلكت، سواء بقطيعة رحم أو بفاحشة أو بشرب خمر، فالنتيجة واحدة والمحصلة النهائية من الوسوسة تحققت بأي نوع منها، إلا أن النفس تأمر بسوء محدد وتصر عليه بذاته ولا تنصرف عنه ولا تحيد، فإذا وجدت عندك خاطر شر لا ينصرف ولا يتبدل فاعلم أنه من النفس.
إذا جاءك خاطر عرفت أنه من الشر، فهل جاءك هذا الخاطر فجأة أم بعد معصية لم تصدق في التوبة عنها؟
كلنا نقع في المعاصي – أجارنا الله وإياكم منها – لكن المصيبة الكبري ألا يتدارك الإنسان ولا يتوب ولا يستغفر، فالعبد قد يستهين بأمر معصية وقع فيها، بل قد يتفاخر بها ويهتك ستر الله عليه، فيعاقب بأن يقذف في قلبه دوام المعصية أو الرغبة في معصية ثانية وهكذا.
لكن انتبه إذا وجدت خاطر الشر بعد معصية لم تتب إلي الله منها، فاعلم أنه نوع استدراج وعقوبة من الله، وهو من أخطر أنواع تلك الخواطر.
إن أضعف أنواع خواطر الشر تلك ما يأتي إلينا من الشيطان «… إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفاً» «النساء – ٧٦»، والعجب العجاب أننا نعلق كل معاصينا عليه، رغم أن مجرد ذكر الله تعالي يصرفه، علي حين أن أصعب خواطر الشر خواطر النفس، وأخطرها الاستدراج الذي يأتي من الله، والتمييز بين الأصعب والأخطر هنا له دلالته في كيفية المعالجة.
تعامل مع خواطر النفس بالترويض، لأنها صعبة المراس تحتاج إلي نوع من التذليل، وأولها: قم عن الطعام ونفسك لاتزال تشتهي لقمة، فنحن قوم لا نأكل حتي نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع أكثر من الصيام، وثانيها: أكثر من الجهد والعمل بقيام الليل وقراءة القرآن، ثم انظر بعدها كيف ستخضع النفس لك أم لا.
علاجه التوبة والرجوع في الحال، لو أنك خالفت إشارة المرور ولاحظت أن هناك من سجل عليك تلك المخالفة ألا يحدث لك بعض القلق داخل نفسك؟ وعندما تخالف جبار السموات والأرض أما تشعر في داخلك بالحاجة إلي المراجعة؟
لقد كان بعض الصالحين يخشي – إذا حصلت منه هفوة – أن يخسف الله به الأرض أو ينزل عليه كسفاً من السماء، لعظمة الخالق في قلبه، فالذي يعصي الله – مع الاستهانة – يقذف في قلبه خاطر معصية ثانية وثالثة، فلا يبالي الله بأي واد هلك.