يختلف الناس في دوافع سلوكهم نحو الإحسان، بين من يحسن لمصلحة وقتية، ومن يحسن بدافع إنساني محض، ومن يحسن مراقبة لله تعالي وسعياً إلي كمال العبودية، وتتنوع مجالات الإحسان في دوائر مترابطة متلاحقة تمثل حقيقة دور الإنسان في العطاء والبذل، سواء في مجال العمل الذي يقوم به وهو مطالب فيه بالإتقان والإحسان أو في تنوع دوائر العطاء وشبكة العلاقات الاجتماعية، التي يحيا في محيطها لنصل إلي بناء الإنسان ذاته كهدف أسمي من تحقق الإحسان.
إن الأمر بإتقان العمل وإحسانه لا يجعله الشرع أمراً يختص بالدنيا فحسب، بل يجعله أيضاً أمر عبادة، يتقرب به إلي الله تعالي، فالدعوة إلي الإتقان هي حث علي التخلق بأخلاق الله تعالي في إتقان الصنعة وإبداعها، ودفع للإنسان إلي خلق الإحسان سعياً إلي محبة الله تعالي، فإن الله «يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه»، وفي رواية أخري «إن الله يحب من العامل إذا عمل عملاً أن يحسن».
فإتقان العمل أو إحسانه يرتبط بمحبة الله تعالي لهذا العمل فيكون الإتقان محوراً لسلوك المؤمن في كل أعماله، فهو يحسن القيام بالمهنة وبالعبادة وبالمعاملة، ثم هي مسؤولية كل واحد منا، حتي الأطفال الصغار يجب أن يتعودوا الجودة والإتقان والإحسان في لهوهم وألعابهم، فالإتقان لا يقتصر علي عمل دون آخر، لا من حيث النوع ولا من حيث الطبيعة، فلا يقولن أحد: هذا عمل ثانوي أو تافه لا يستحق بذل الجهد فيه وإحسانه.
والإحسان من أهم أسباب نجاح الصناعات الحديثة وتقدم ورقي الدول، لاهتمامها بمراقبة الجودة النوعية في كل مراحل الإنتاج ووضع معايير ومقاييس للجودة، بل يأوجدت بعضها جائزة سنوية للأداء المتميز الذي يتسم بالإحسان وأنشأت روابط ومنظمات دولية لمراقبة الجودة النوعية.
والإسلام في حثه علي الإحسان يتجاوز ذلك كله ويرتقي به، إلي أن يصير الإحسان نوعاً من التحقق بالعبودية لله تعالي، فلا يمكن للمسلم أن يرتقي إلي درجة العبودية إلا بإتقان كل ما يقوم بأدائه من أعمال تعبدية أو مهنية أو غيرهما، ففي مسند أحمد عن سيدنا عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: توَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ هَذَا الْوُضُوءَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ إِلَي الصَّلَاةِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا كَفَّرَتْ عَنْهُ مَا بَينَهَا وَبَينَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَي مَا لَمْ يصِبْ مَقْتَلَةً يعْنِي كَبِيرَةً».
بل جعل الرسول عليه الصلاة والسلام من عدم الإتقان نوعاً من السرقة ينطبق حتي علي الصلاة، ففي مسند أحمد عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يسْرِقُ صَلَاتَهُ، قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيفَ يسْرِقُهَا ؟ قَالَ: لَا يتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا»
.فإتقان العمل أمانة يجب أن يؤديها علي أكمل وجه وأحسنه، وأي وقت يضيعه الإنسان وهو في عمله، يكون قد أخذ عليه أجراً فهو من قبيل السرقة، ومن أبلغ الصدقات إتقان العمل، ومن أوجب ما يقرب العبد إلي ربه العمل المتقن الجيد.
ثم إن الإتقان هو دعوة للمبادرة والإبداع واكتساب المهارات فيما ينفع الناس ويحسّن من أحوالهم، فالإتقان يرتقي في السلوك إلي مرتبة الإبداع القائم علي المبادأة والمبادرة والتجديد، طالما كان فيما ينفع الناس، أما الإبداع فيما لا يفيد الناس فهو هدر للطاقة وتضييع للجهد والوقت.
لذلك يروي عن المأمون أنه قد جيء إليه برجل لديه مهارة لا توجد عند أحد غيره، فغرس إبرة في الأرض، ثم رمي نحو سم الخياط مائة من الإبر ما أخطأ واحدة منها، وهي مهارة عجيبة بالفعل أذهلت المأمون الذي أمر له بمائة دينار مكافأة له علي مهارته، ولكنه أمر أيضاً بجلده مائة جلة لتضييعه موهبته فيما لا يفيد.
وهناك مجال آخر لثمرات الإحسان، يبدو في معاملة الإنسان وحركته في الحياة والعلاقات الاجتماعية، حيث تختلف دوائر الإحسان فهناك من يحسن وبفيض رحمة لمن يعرفهم ويحبهم من ولد ووالد وصديق وزوج، لكنه لا ينفتح بذات الإحسان علي ما يتجاوز هؤلاء من دوائر العطاء والبذل، فلا يتعاطف مع آلام الآخرين الذين لا صلة له بهم، بل قد يقابل حاجتهم للعطاء ببرود مشاعر وقسوة قلب.
لكن المسلم حسن التخلق بالعبودية تصبح كل حركته تحقق بمقامات الإحسان، فيفيض رحمة تجاه كل من يعرف ومن لا يعرف، وتتوسع دائرة إحسانه لتشمل كل ما يحيط به، ففي صحيح البخاري ومسلم «عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَينَمَا رَجُلٌ يمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَي الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»، ودوائر التحقق بإحسان العبودية لا حصر لها فالمسلم» يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلي الصلاة صدقة، ويميط الأذي عن الطريق صدقة»، فهو إحسان ينتظم الوجود كله ويجعل المسلم مسؤولا عن الإحسان لكل ذي كبد رطبة .
فعن سَعِيدُ بن جُبَيرٍ- كما في المعجم الكبير- قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَمَرَّ عَلَي قَوْمٍ قَدْ نَصَبُوا طَائِرًا اتَّخَذُوهُ غَرَضًا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَعَنَ اللَّهُ مِنْ فَعَلَ هَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ينْهَي عَنْ هَذَا».
وتتنوع مجالات البذل والعطاء بالإحسان، ومنها العطاء من المال ومن كل ما يمتلك الإنسان من أشياء ينتفع بها، ومنها عطاء العلم والمعرفة، ومنها عطاء النصيحة، ومنها عطاء النفس من حلو الكلام والابتسام وطلاقة الوجه، ومنا من يعطي من وقته وجهده ومن يعطي من دعائه وحبه ورحمته، ومنها العطاء من طاقات الجسد وقواه المادية والفكرية فيمشي في مصالح الناس ويسهر من أجل راحتهم، ويرتقي العطاء حتي يصل إلي مرتبة التضحية بالحياة ذاتها كما في المجاهد والمقاتل في سبيل الله تعالي.
فلا تحقرن من المعروف شيئاً، ولا يمنعك ضيق ذات اليد من التحقق بمقامات الإحسان في غير ذلك من ميادين البذل والعطاء، وقد كفل الله تعالي لك أجر السعي وثوابه، ففي صحيح مسلم عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتْ الطَّيرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ».
لكن أصدقكم القول، إن الثمرة الحقيقية للإحسان ومجاله الذي يحتاج إلي عناية وجوهر التحقق بالعبودية لله تعالي هو بناء الإنسان ذاته، وهو موضوع المقال القادم بإذن الله تعالي.