عبارة أضحت تتطاير بها ملايين الرسائل القصيرة عبر الجوال، تعبيراً عن ظهور ثقافة جديدة في التهنئة فرضها تفوق هذه الرسائل بإيقاعها السريع وانخفاض تكلفتها، مقارنة بطرق المعايدة التقليدية في المواسم والمناسبات العامة والخاصة، وإن اختلفت في صياغتها أو أضيفت إليها رموز أو صور، لكنها صارت في المقام الأخير رمزاً للتواصل والعلاقات الإنسانية في عصر العولمة والاتصالات.
وقد يري البعض أن المعايدة برسائل قصيرة علي عشرات الأصدقاء والمعارف هي وسيلة طيبة تختزل عناصر الوقت والبعد المكاني، وتسهل تأدية الواجبات الاجتماعية في ظل تزاحم الأولويات وكثرة انشغالات الأفراد، علي حين يراها البعض الآخر وسيلة تفتقد دفء المشاعر الحقيقية للإنسان، وأنها لا تحمل خصوصية ولا ترتيب العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، خاصة تلك العبارات التي تصل للفرد ثم يعيد إرسالها لعشرات من معارفه، دون أن يضفي عليها ما يمثل مشاعره الحقيقية، فتظل تلك الرسائل فيها شيء من البرودة، والكثير من التكرار والنسخ والعبارات المسجوعة، التي تفتقر إلي التعبير الراقي والصحيح عن مشاعر الود والتراحم والإحسان.
وفي الحقيقة فإن حديث اليوم عن وسائل التهنئة والمعايدة تلك له صلة ببناء الإنسان موضوع المقال السابق، لأن الاعتماد علي تلك الوسائل التي فرضتها ثورة الاتصالات إنما هو تعبير عن تغيرات في القيم والسلوكيات، وعن الخلل في ترتيب علاقات التواصل الإنساني أو دوائر البذل والعطاء والإحسان لدي الأفراد والجماعات.
ذلك لأن تعامل الإنسان مع من ليس له بهم صلة مباشرة أو حقيقية – عن طريق الإنترنت أو غرف الدردشة أو الفضائيات علي سبيل المثال- أصبح أكبر بكثير ممن له بهم صلة مباشرة في حياته اليومية، فبدأت معايير الصلة القريبة والحميمة بين البشر تضيق وتهتز، لأن الاتصالات عبر أجهزة الجوال أو الإنترنت أو الفضائيات، هي تعبير عن علاقات افتراضية، تفتقد الوجود الحقيقي والمشاعر الصادقة، وتسبب العزلة وتضعف العلاقات داخل العائلة الواحدة أو التفاعلات الاجتماعية المباشرة، هناك إحلال وظيفي عبر وسائل الاتصال لنمط من العلاقات الأبعد محل العلاقات والروابط الأكثر صلة بالإنسان، الأمر الذي يعكس نوعاً من الخلل في الأولويات وترتيب العلاقات الاجتماعية.
فالدائرة الأولي والركيزة الأساسية لبناء الإنسان، ومحل عطائه وإحسانه، والتي لا يمكن ملء فراغها برسائل قصيرة في المناسبات هي الأسرة، ثم يأتي بعد ذلك تقويم وترتيب علاقات الفرد في الدوائر الأكثر اتساعا من الأسرة، خاصة دائرة الأرحام ودائرة الجوار، ثم عموم أهل المهن والوظائف والأصدقاء والزملاء الذين للإنسان احتكاك وصلات مباشرة ويومية بهم .
فهذه الدوائر الاجتماعية تعبير عن علاقات طبيعية تحيط بالأسرة وتحفظ عليها تماسكها، لأنها امتداد فاعل وإيجابي لها سواء من جهة القرابة أو الجوار أو الاحتكاك اليومي، والذي يجعل العلاقات والصلات الأبعد، فيما يجاوز تلك الروابط الطبيعية، تأخذ مساحات أكبر في عقولنا إنما هو فراغ العلاقات داخل الأسرة أو بين الأرحام أو بين الجيران أو برودة وإهمال العلاقات بين أصحاب المهن والزمالة.
ومن ثم فإن أول دوائر الاعتناء في بناء الإنسان هي الأسرة، حيث أضحي الحفاظ علي الأسرة من ضمن الأمور المؤرقة لكثير من المجتمعات، فرنسا علي سبيل المثال تشهد تراجعاً خطيراً في معدلات المواليد من أصول فرنسية، علي نحو يهدد بتحولهم إلي أقلية داخل فرنسا ذاتها، الأمر الذي يصاحبه تشجيع الدولة لبناء الأسرة والدفع مقابل الإنجاب تخوفاً من انهيار تلك الركيزة الأساسية.
ولعل السبب في تهاوي تلك الرابطة الإنسانية الأولي لدي البشر هو الميل إلي تعميق التفرد والأنانية في النفس البشرية، وأن علاقات الإنسان بمن يحيطون به تكون بقدر ما يسد حاجته الفردية أو مصالحه الضيقة، حتي في إطار الأسرة التي تحولت من القيام علي أسس المودة والرحمة إلي أساس النفع المتبادل والمطالبة بالحقوق، وغياب معاني البذل والعطاء والإحسان، فضلاً عن تخلف المعني الصحيح لتكوين الأسرة ، وصعوبة المعيشة وارتفاع التكاليف والمسؤوليات المترتبة عليها.
ثم يأتي التأسيس المنهجي الصحيح لدوائر الانتماء فيما يتجاوز محيط الأسرة، وأول إطار خارج الأسرة هو قدسية العلاقات مع الأرحام، ثم تعديته إلي أهمية حق الجار، فيبدأ الفرد في تعلم كيفية معاملة الله تعالي في الرحم والجار، ثم تأتي دائرة أوسع من الرحم والجار وهي دائرة الأصحاب والأصدقاء وزملاء المهنة والصناعة، فتبدأ دوائر الاتصال الإنساني تتسع، لكن بتبصر وتدرج ووضع كل علاقة منها في موضعها الصحيح، بما يشكل في النهاية نوعاً راقياً ومميزاً من بناء الإنسان.
فمن ملامح العصر افتقاد الخصوصية المحلية وضعف الصلات الأقرب، وصار للإنسان علاقات مع أفراد يتجاوز بهم محيط العلاقات مع الناس الذي يحيا بينهم، وليس في ذلك غضاضة أن يتواصل الإنسان مع الآخرين في المجتمع الكوني، وأن يحقق دلالات التعارف الحضاري، لكني أتحدث عن أن الفرد قد يتواصل مع إنسان لا يعرفه علي بعد آلاف الأميال لساعات طويلة علي شبكة الإنترنت، وقد تمر عليه أعوام وهو لا يعرف من هو جاره الأدني الذي يسكن بجانبه، وقد تمر عليه الأيام والشهور دون أن يحادث عمه أو ابن عمه أو أخاه وأخته، ما نتحدث عنه ليس اتساع دوائر الاتصال، وإنما الحديث هنا عن قطع وعن تجاوز للعلاقات الطبيعية وعن الخلل في ترتيب الأولويات.
إن البناء الصحيح للإنسان يعني ضرورة النظر في ترتيب العلاقات في الدائرة الإنسانية الأقرب للأسرة، فهم لهم حقوق أوجبها الله تعالي وجعلها وشائج بين الأسرة وبين تلك الدوائر، فصلة الرحم باب من أبواب البر وقطع الرحم كبيرة من الكبائر، لها أثرها في الرزق والأثر، ” فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ ينْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيصِلْ رَحِمَهُ» (صحيح البخاري)، يتجاوز فيها الإنسان دائرة الحقوق والتبادل إلي مرتبة العطاء والإحسان، «لَيسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» (صحيح البخاري).
وحق الجار والإحسان إليه علامة من علامات الإيمان، وهي تعبير عن عدم كمال الإيمان، «فعَنْ أَبِي شُرَيحٍ أَنَّ النَّبِي صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يؤْمِنُ. قِيلَ: وَمَنْ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:الَّذِي لَا يأْمَنُ جَارُهُ بَوَايقَهُ» (صحيح البخاري) الأمر الذي يجب أن ينبهنا إلي خطورة إهمال تلك الدوائر من التواصل الإنساني الطبيعي، فالصلة بالرحم والصلة بالجار مؤشرات كمال إيمان الفرد، وهي أمور لا تلغي ولا تختزل في ثورة الاتصالات الحديثة إلي مجرد رسالة قصيرة عبر الجوال.
ثم هناك دائرة أهل المهن والوظائف، والتي يجب أن تقوم علي معاني التعاون والتكامل والإيمان، فالصلة بيننا وبين من يحيط بنا ليست صلة مصلحة، وإنما صلة دين وإيمان، تقوم فيها علاقات التعاون علي نحو تكاملي وعلي أساس إيماني، فالأساس في صلتنا بمن حولنا أن الله قد أمرنا بذلك، وأن المسلم ليسأل عن صحبة ساعة، فما بالكم بمن يصاحبهم الناس ويلتقيهم في اليوم والليلة في العمل والمسجد والحي الذي يسكن فيه.
إن الحديث عن الترتيب الصحيح لتلك العلاقات له صلة وثيقة ومؤثرة في بناء الإنسان ورقيه ومعاملته مع الله تعالي من خلال وشائج الرحم والجوار والزمالة، فهي وشائج تمثل جزءاً من حياتك إذا رضيت أن تهملها أو تستغني عنها بسبب تجاوز الناس، هذه الصلات لما هو أبعد وأوسع معناه الخلل في التركيب النفسي والإيماني للإنسان، لقد أوجب الله صلة الأرحام والجوار والصحبة في معان راقية من التواصل والعطاء الإنساني، لا تقتصر علي مجرد كف الأذي، فالمسلم لا يعيش فقط ليكف عن الناس أذاه، وإنما المسلم صاحب عطاء وبذل وإحسان والمسألة أكبر وأعمق من مجرد القرابة أو التلاصق المكاني أو أداء الواجبات.