إن الذين جعلوا الإحسان ركناً واحداً، إنما قصدوا أن نعيش معني مراقبة الله تعالي في كل أحوالنا، فلا يصدر عنا تجاه خلق الله من العلاقات، إلا الإحسان وإن أساءوا، وإلا ما أحسن وأحكم وأتقن من الأفعال والصناعات.
فالذين قالوا إن الإحسان ركن واحد ركزوا علي مسألة المراقبة تلك، والذين جعلوا الإحسان ركنين، جعلوا الرتبة الأولي الأعلي أن نعيش ونحن مدركون أن الله ناظر إلينا، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا، في كل أحوالنا ومعاملاتنا، فمن صبر علي ذلك، ارتقي إلي الرتبة الأعلي أو الركن الأول من أركان الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فالأمر يحتاج إلي مجاهدة واجتهاد، ولهذا قال الله تعالي: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) «العنكبوت ٦٩»، فربط مجاهدة النفس بالتوفيق والهداية للسبل التي تكون ثمرتها معية الله تعالي.
فالمرتبة الأسمي من الإحسان أن تشهد الله تعالي في سائر معاملاتك، أي أنك تري الله أمامك، استحضاراً يحملك علي أن تحسن للآخرين في معاملاتك، أو تتقن العمل في صناعتك ومهنتك لا من قبيل الخوف أو الرجاء أو الحياء، وإنما أنت تعمل وأنت تشهد الله من قبيل الثقة والطمأنينة بأن الله معك، كما في قول سيدنا رسول الله عليه وعلي آله وصحبه الصلاة والسلام في الغار جواباً علي قول الصديق رضي الله عنه وأرضاه: «يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، أو ما نجده في طلب سيدنا إبراهيم خليل الرحمن: «ولكن ليطمئن قلبي»، أي طمأنينة من شاهد الله تعالي في قدرته علي إحياء الموتي.
فالمقصود من الحديث عن الإحسان أن تحيا دون أن يغيب عن نظرك أن هناك غاية وهدفاً أسمي من حياتك، وهو أن ترتقي في كل علاقاتك ومعاملاتك وعملك إلي رتبة المراقبة لله تعالي، ثم إلي المشاهدة والحضور. فإن الله تعالي (كتب الإحسان علي كل شيء)، ولأن الإحسان دعوة إلي إيجاد الشخصية المثلي، الشخصية التي اتجهت حركة المجتمع وجهود التربية إلي إيجادها، هذه الشخصية تمثل المثالية التي تحققت في واقع المجتمع المسلم في الماضي، ويمكن أن تتحقق في واقعنا إذا توافرت الشروط الموضوعية لتحقيقها.
وهناك قصة نعرفها جميعاً في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأة التي قالت لابنتها: «قومي فامزجي اللبن بالماء»، تريد أن يكثر اللبن فيكثر الثمن، لأن الإنتاج لا يكاد يغطي حاجتهما فغلبتها نفسها ودعتها حاجتها إلي الغش، إلا أن البنت الصغيرة التي تربت علي الصدق وعلي الإحسان قالت لأمها: «أوما علمت بما كان ما أمر أمير المؤمنين بعدم غش اللبن؟ قالت الأم: قومي إلي اللبن فإنك بموضع لا يراك فيه عمر، فأجابتها البنت في كلمة صادقة خالدة: إن كان عمر لا يرانا، فإن رب عمر يرانا».
إنها بنت صغيرة يأتيها خوف الفقر وطمع المال ليصارعان ثباتها علي الإحسان، فتضرب لنا المثل الأعلي في معاني مراقبة الله تعالي، لاحظوا كم من أمورنا لا نتعامل فيها إلا مع عمر دون رب عمر؟، هل لاحظتم أن المعاكسات الهاتفية اختفت بعد خدمة إظهار رقم الطالب؟ هل كان المعاكس يتعامل مع عمر أم مع رب عمر؟ متي نضع حزام الأمان..متي نلتزم بحدود السرعة المقررة ..متي نذهب إلي العمل ومتي نعود منه وماذا نعمل فيه، من الممكن أن نكون في مكان لا يرانا فيه عمر، ولكن أين ذلك المكان الذي لا يرانا فيه رب عمر؟ لا تعتذر بكثرة المخالفين فأنت سوف تسأل وحدك، ولا تعتذر بالحاجة أو بالضرورة فإن البنت الصغيرة كانت تستطيع أن تجد لها نفس التبرير.
والشاهد الآخر في تلك القصة أن عمر لم يكن غائباً كما ظنت الأم، بل كان حاضراً يسمع وينصت فهو مسؤول عن رعيته وعن رعاية حق الله فيهم بالمراقبة والإحسان، فدعا أولاده وجمعهم وقال: «هل فيكم من يحتاج إلي زوجة، لو كان بأبيكم قوة إلي النساء ما سبقه أحد منكم إلي هذه الجارية»، فزوجها ابنه عاصم فولدت بنتاً كانت أماً لعمر بن عبد العزيز أعدل بني أمية وخامس الخلفاء الراشدين.
ما الذي نتعلمه من هذه القصة ونحن نتحدث عن زمان تعاني فيه الأمة من الضعف والهوان، ومن سفك الدماء وهتك الأعراض واحتلال الأوطان ومن التخلف والفقر والتناحر والتباغض، إذا أردنا أن نتخلص من ذلك كله فعلينا أن نتحري الصدق مع الله ومراقبته عز وجل في كل أحوالنا وسلوكنا، فأول الإحسان صدق مع النفس في التعامل مع الله تعالي ثم تعامل مع مخلوقاته وإحسان إلي الآخرين،
والإحسان في أمور الدنيا يشمل الحياة كلها، إذ إن الحياة لا تنمو ولا تزدهر، والحضارات لا تبني ولا تتقدم إلا بالإحسان، إحسان التخطيط وإحسان التنفيذ وإحسان التقدير، والمسلم لا يتربي علي الإحسان إلاّ إذا قصد الإحسان في تفاعله مع المجتمع، ليس بقصد اللياقة الاجتماعية المظهرية، بل بقصد مراعاة حق الله تعالي وحق سائر مخلوقاته التي أمرنا بالإحسان فيها علي قاعدة من الأمانة والصدق والإخلاص والتقوي والمسؤولية الاجتماعية المتجذرة في وجدانه وكيانه، إحسان نتحدث عن ثمراته في مقال قادم.