فى بداية كل عام هجرى جديد، نحتاج إلى نوع تأمل وتدبر لحكمة توالى الأيام والليالى والشهور، فنحن أمة تضبط أيامها وكل تاريخها بهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد كان من الممكن أن يُضبَط تاريخها بمولد الحبيب صلى الله عليه وسلم ابتداءً أو بانتقاله إلى الرفيق الأعلى انتهاء ، أو أن يكون تاريخنا ابتداءً من البعثة المحمدية أو من فتح مكة، وكلها أحداث عظيمة ولها أثر كبير فى تاريخنا، إلا أن الله تعالى ألهم سيدنا عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أن يجعل مسألة التأريخ تلك مرتبطة بالهجرة، ليرتبط الأمر كذلك فى قلوبنا نحن بمعانٍ ودلالات جمة لمفهوم الهجرة.
تدبر حكمة توالي الأيام والشهور
إذ قد اعتدنا فى التعامل مع الكلمات والمفاهيم، أن نقتصر على المعنى الأول المتبادر إلى الذهن، بادى الرأى، فلا يكاد مفهوم الهجرة – على سبيل المثال – يغادر دلالته المكانية، ويظل مرهوناً بأنه يعنى الانتقال من مكان إلى آخر.
لكن تأمل كيف تسكن المفاهيم فى مواضعها الحقة، وتتخذ دلالتها الحقيقية فى خطاب الرسول، عليه الصلاة والسلام، للناس فى حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه فى طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (شعب الإيمان، باب أن يحب الرجل لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه ١٣/٤٥٥ برقم ١٠٦١١).وفى رواية الإمام البخارى: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (البخارى كتاب الإيمان/ باب المسلم من سلم المؤمنون من لسانه ويده ١/١١ برقم ١٠، كتاب الرقاق/ باب الانتهاء عن المعاصى ٨/١٠١ برقم ٦٤٨٤)، فمن معانى الهجرة التى نتأملها فى هذا المقال، هجر ما نهى الله عنه، ليستشعر كل واحد منا مع تعاقب الأيام والأعوام، ومع بداية كل سنة هجرية عليه، أنه مخاطب بأن يهجر الخطايا والذنوب، وأن يهجر ما نهى الله عز وجل عنه.
ما المعنى المقصود بالهجرة هنا ؟
وإذا كان المهاجر يترك مكانه إلى مكان آخر، فما معنى الهجرة المقصود هنا؟ وإلى أين يهاجر الإنسان؟ إنه فى الحقيقة يهاجر من داخله إلى داخله، من إطاعة نفسه ورغباتها إلى طلب القرب من الله عز وجل، ومن الذنوب والخطايا إلى التوبة والمغفرة، فهو فى كل حالة من حالاته ينتقل من مرتبة إلى مرتبة، حتى لتصبح حياته كلها هجرة وطلباً وسيراً إلى الله تعالى.
تاريخنا يصنعه من أحسنوا الصدق مع الله
فارتباط تاريخنا بمعنى الهجرة ينبهنا إلى معنى مهم، وهو أن تاريخنا كأمة إنما يصنعه الذين صدقوا مع الله تعالى فى هجر ما نهى الله عنه، إنما يصنعه الذين عاشوا معنى الهجرة من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة، ثم ارتقوا بها فى أعلى مراتب النفس البشرية إلى النفس الملهمة، فالمطمئنة، فالراضية، فالمرضية،
فالذين كتبوا تاريخ هذه الأمة بهمتهم وجهادهم ونصرتهم، إنما كانت أحوالهم كلها هجرة عما نهى الله عنه، مثلما لا تجد مُجدِّداً فى أى ميدان من ميادين إحياء الأمة، إلا وقد كان معنى الهجرة هذا متقداً فى قلبه، حياً فى باطنه، مؤثراً به فى حال واقعه.
أمتنا أمة حية يتصل كيانها بكونها
كذلك من الأمور التى تحتاج منا إلى نوع تأمل وإمعان نظر، أن الشهور القمرية التى نؤرخ بها للأمة، ليست قاطعة الثبوت، سواء فى الابتداء أو الانتهاء، فلا نستطيع أن نحسبها ونقررها من بداية السنة، فنقول من الآن – على سبيل المثال – إن بداية شهر رمضان للعام المقبل هو يوم كذا، شهر كذا من التقويم الميلادى، فالأشهر القمرية تتطلب منا الترقب والرؤية فى بدايتها وانتهائها،
وهى رؤية تشارك فيها الأمة بكل أفرادها وفئاتها، ذلك لأنها أمة حية، أمة مهمتها أن تبقى على صلة بالكون الذى تعيش فيه، وأن تشعر أن للزمان قيمة فى مروره عليها، وأن لها فى بداية ونهاية كل شهر اهتماماً وانشغالاً مرتبطاً بمهمتها فى الخلافة والعمران.
ففى ذلك إحياء لمعنى قيمة الوقت عند الأمة، وأن الأمة لا تنفصل عن الكون الذى تحيا فيه، لأن أمتنا علمت أن صِلاتها بالوجود وبالكون هى صِلات عمارة وعمران، لأننا خلفاء الله تعالى فى أرضه، ولم يخلق الله عز وجل الكون عبثاً، ولا يكون لنا أن نجعله بيننا عبثاً بالتدمير والتخريب، فتمسكنا بتاريخنا واستشعارنا قيمة مرور الأيام والشهور، يعنى أن لنا فى هذه الأرض رسالة سامية ومهمة خالدة، بدايتها الحقة الحفاظ عليها، والتعامل معها بمنطق التسخير لا بمنطق العلو والاستغلال.
تاريخ الأمة يصنعه عدولها
ومن الأمور التى يمكن ملاحظتها فى بداية العام الهجرى الجديد أن وسيلة اعتبار دخول الشهر عندنا، إنما تكون عن طريق أفراد ثقة عدول من الأمة، يشهدون برؤيتهم الهلال، فأصبحت صِلاتنا بالكون بالتالى صلة تتعلق بأهل الثقة الذين يؤخذ برجاحة عقلهم وبورعهم وأخلاقهم، فهم الذين يضبطون لنا تاريخنا وأيامنا وليالينا، ودون الثقة العدول لا ينضبط لنا يوم ولا ليلة، والأمة التى يقل فيها عدولها، تضطرب علاقاتها بالكون وتهتز صلاتها بأيامها ولياليها.
فهذا من المعانى التى ننتفع به من رؤيتنا مفهوم الهجرة، وهذا تنبيه للأمة بأن تاريخها يبنى على أيدى وجود العدول فيها، ثم تأتى مسألة ثانية فى المعنى نفسه، وهى أن هؤلاء الثقة العدول لن يبنوا تاريخاً للأمة إلا إذا تنبهوا.. فالعدول.. فى سلوكهم الشخصى والفردى، لكنهم يعيشون غفلة عن مهمتهم تجاه أمتهم، لا يمكن أن يبنوا تاريخاً لها، فالعدل الذى يبنى تاريخ الأمة ينبغى أن يكون يقظاً متنبهاً لمعانى الزمان والمكان.
القاسم المشترك بين أحداث السنة
ثم إذا تأملنا السنة الهجرية عبر شهورها، فسنجد أن القاسم المشترك بين أحداث السنة من أولها إلى آخرها، هو فعل الخير على أساس الفرح بالله، ولكم أن تستعرضوا السنة من المحرم شهر الله الحرام، وما فيه من يوم عاشوراء أو يوم النصرين: الانتصار على مستوى الواقع، ممثلاً فى نصر الله تعالى سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين الصادقين على فرعون.
والانتصار على مستوى النفس، ممثلاً فى ثبات سيدنا الإمام الحسين سبط رسول الله، صلى عليه وسلم، على الحق بقطع النظر عن قوة وجبروت ما واجهه من زيف وباطل وإغراءات، ليُعلّم الأمة على كر السنوات والقرون أن الثابت على الحق هو صاحب الحق..
ولهذا ابتدأت أول مواسم سَنتنا بشهر محرم، وفى شهر محرم معنى النصرة، وأن النصرة لها ارتباط بمعنى الهجرة. إن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه لندرك أن ما نرومه من نصر من الله تعالى إنما يرتبط بضبط النفس وهجرة ما نهى الله عنه.
ولكم أن تتفكروا فى كيفية ارتباط سائر الشهور بفعل الخير على أساس الفرح بالله تعالى، وانظروا كيف ارتبطت سَنتنا كلها بمعان وبأحداث حتى نعيش حياة نستشعر بها دلالات مرور الأيام والليالى، فإذا دخل شهر ذى الحجة وجاءت الأيام العشر وانتهت السنة، جاءت فيها المواسم بكثرة مركزة ليتنبه الإنسان إلى عمارة خاتمته، لأنه إذا اعتنى الإنسان بخاتمة سنته، واعتنى بخاتمة شهره، واعتنى بخاتمة أسبوعه، واعتنى بخاتمة يومه.. فهذا الاعتناء بالخواتيم يورث الإنسان بركة أن يعتنى الله عز وجل بخاتمة عمره.
فلا تأتى ساعة الانتقال لدار الآخرة إلا وقد تحدد للمؤمن معنى الهجرة فى باطنه.. والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ويتهيأ لأعظم مراحل سفره فى حياته، وهى مرحلة الورود على الله جل جلاله، فلا تأتى ساعة الوفاة إلا وهذا القلب قد اطمأن، لأنه اعتاد أن تكون له خواتيم يقظة وانتباه، ويموت المرء على ما عاش عليه، ويُحشر على ما مات عليه.
المؤمن الذي سيبني مستقبل أمته
إذا استشعر المؤمن هذه المعانى فهو المؤمن الذى سيبنى أمته، وهو المؤمن الذى سيصطفيه الله تعالى للفرج عن هذه الأمة المحمدية، ونحن على أبواب فرج قريب لهذه الأمة، يوشك أن تروا بأنفسكم هذا الأمر، «لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد، متاع قليل..»، والذين سيصطفيهم الله لهذا الفرج المقبل على الأمة، هم الذين يعيشون تصديق يقين قلوبهم بما أخبر الله به ونبيه أعظم من تيقنهم بما تخبر به أعينهم ومسامعهم وألسنتهم.
وهذا أمر ينبغى أن نتنبه له، فإن الذين سيصطفيهم الله للفرج القريب المقبل على الأمة هم الذين يعيشون أمثال هذه المعانى، والذين تمر عليهم الأيام والليالى وهم يهاجرون ما نهى الله عنه فى أنفسهم وفى زوجاتهم وفى ذريتهم وفى أبنائهم وفى معاملتهم مع الذين يحيطون بهم،وقد قال صلى الله عليه وسلم: « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل» (مسند أحمد ٨/١٥٥ برقم ١٦٩٥٧).
فإن عشت على هذا المعنى، وقلبك مطمئن إلى هذا الأمر، وسعيت فى هذا الأمر، فسيدخل الإسلام كل بيت بعزك أنت، وإن أغفلت هذا الأمر، وعشت لدنياك، ونسيت آخرتك، وأغفلت أنك مسلم، صاحب مهمة فى نشر هذا الدين، بأخلاقك وباستقامتك وبهمتك، فسينتشر أيضاً هذا الدين لكن بِذُلّك أنت، فانظر من بداية هذه السنة على أى حال ستمر عليك.اللهم بارك لنا فى عامنا هذا وارزقنا فيه من حسن الإقبال عليك، وأكرمنا بكمال القبول لديك وبالثبات على ما تحبه وترضاه.