بداية الطريق لمن أراد أن يصل إلي الله باعث، وهو خاطر يخطر في قلب الإنسان، ومبدأ كل طاعة خاطر، ومبدأ كل معصية خاطر، مأخوذ من الانبعاث أو الدافع الذي يحرك في قلب المؤمن همة السير إلي الله تعالي، فما الذي يدفعك حينما تسمع المؤذن ينادي: الصلاة خير من النوم، حتي تترك النوم والاسترخاء وتستجيب لنداء الصلاة؟ ما الذي يجعلك تحجم عن صفقة مربحة سال لها لعابك لأن فيها أكلاً لأموال الناس بغير حق؟ ما الذي يحرك في قلبك آناء الليل والنهار كيف تتقرب إلي الله؟ وما الذي ينهض همتك لتجعل حياتك كلها طلباً لله تعالي؟
هو إذاً خاطر في قلب الإنسان يزعجه ويقلقه، ويقول له: إلي متي تعيش في هذه الحياة الدنيا وأنت غافل؟ إلي متي والفرصة تناديك أن كل نفس من أنفاسك نقص في عمرك؟ عتاب وخطاب ينبعث في قلب الإنسان، فيخاطب به نفسه ليحركها ويرغبها في الإقبال علي الله، ويشعرها بالندم علي ما فات وضاع، لذا يسمونه الباعث لأنه ينبعث أولاً في الإنسان من الله تعالي، ولأنه ثانياً يبعث أي يحرك الإنسان في طلب الإقبال علي الله.
إذا كانت البداية هي بطاقة دعوة من الرب إلي العبد ليقبل عليه، فلم نتحدث عن طلب حصول الباعث؟ ذلك لأن الله عز وجل جعل أسباباً لحصول هذا الباعث في قلب الإنسان: حالة ترغيب أو حالة ترهيب أو حالة تشويق، ومن الممكن أن يأتي الباعث من غير تلك الأسباب كلها، دون أن يعني ذلك أن يتكاسل الإنسان ويتقاعس عن طلب الباعث. فكما للرزق أسباب أمرنا الرزاق بالأخذ بها، فإن للهداية أسبابها كذلك، أو ليس الذي يهدي هو الذي يرزق؟
يذكر العلماء أن النفس البشرية تتأثر وتنفعل إما لخوف وترهيب، وإما لطمع وترغيب، وإما بسبب ثالث هو الحب والتشويق، فإذا وصلك إنذار من العمل بسبب الإهمال وانبعثت همة من داخلك ونشاط.. فما سبب هذه الهمة والنشاط؟ ذلك لأن النفوس بحاجة إلي ترهيب علي نحو تغدو فيه آيات النار والعذاب من دلائل الرحمة بالإنسان. تحتاج النفس إلي أن تتذكر ساعة الموت، وساعة الحساب مع كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وساعة الوقوف بين يدي الله، فتحصل في القلب يقظة وهمة في الإقبال علي الله.
وفي المقابل تنبعث همة النفس وتنشط بالترغيب والطمع فيما عند الله عز وجل، فعندما تقرأ ما أعده الله من نعيم مقيم لأهل الإقبال عليه ألا يحرك هذا في قلبك معني وباعثاً؟ والثالثة: الحب والتشويق عندما تتفكر في قوله تعالي: «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» أو تتأمل كيف في لحظة مخاطبته المسرفين علي أنفسهم لم يتبرأ منهم بل نسبهم إليه فقال: «قُلْ يا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَي أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»، أو عندما تمر علي حديث المصطفي يخبرك فيه أن ربك جل جلاه يناديك في كل ليلة: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ يعْطَي؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يغْفَرُ لَهُ؟» ألا تحرك في قلبك معاني الشوق إلي الرب الكريم الذي يعامل بهذا الإحسان؟
لما نظر الصحابة رضي الله عنهم إلي إمرأة فقدت ابنها وأخذت تبحث عنه أياماً، فجاء يكاد يتعثر في مشيته راكضاً إلي أمه التي احتضنته، وهي تبكي حتي أبكت جميع الصحابة، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «أَتَرَونَ هذه المرأَةَ طارِحَة ولدها في النار؟ الله أرحَمُ بعباده من هذه المرأة بوَلَدِها» (البخاري (٥/٢٢٣٥، رقم ٥٦٥٣)، ومسلم (٤/٢١٠٩، رقم ٢٧٥٤). عندما تستشعر هذا الاستباق من الله بهذه المعاملة الراقية ألا تحب هذا الرب …ألا تشتاق إليه؟
هي بطاقة دعوة وجهت لك من الله تعالي.. بقي أن تجيب هذه الدعوة، أمامك ثلاث مهمات مع الباعث: الأولي: أن تحافظ عليه، فهو هدية من عظيم وقد يصل الإنسان إلي الستين وما تحرك في قلبه هذا الباعث، فإذا انبعثت في قلبك همة الإقبال علي الله فحافظ عليها وقوها حتي لا تذهب عنك. كيف أحافظ عليه؟ قالوا: بالإعراض عن مجالسة السيئين وعن وسوسة الشياطين، فاختر لنفسك من تجالس بعد أن بعث في قلبك همة الإقبال علي الله ، لأن الإنسان يتأثر بجليسه شاء أم أبي، كما نحفظ من حديث «مثل الجليس الصالح والجليس السوء».