هو شاب سعودى كتب عبارات موهمة لم تخل من تطاول على الله ورسوله فى مبناها، ثم سارع إلى الاستغفار والتوبة والاعتذار بعبارات ترشح محبة وندما، ولكن هياج الغيرة على الدين لدى الناس وتهييج البعض من الدعاة لمشاعر الغضب لم يقبل منه اعتذاراً، وعلت أصوات المطالبة بقتله، بل وتكلم البعض نيابة عن الرب بأنه لن تقبل له توبة، وهى ليست مشكلته وحده، بل مشكلة جيل، ولهذا كتبت هذا المقال.
لم أنم طوال الليل مطالعاً لكتابات حمزة وأصدقائه، وكان الفكر يجول فى قضيته.. نعم قضيته! فهى مأساة مجتمع، بل مآسى أمة، كم كشفت من عورات، وكم أظهرت هشاشة تديننا، وكم أبرزت سطحية معرفتنا، وكم أطلقت العنان لقبح خطابنا الذى نظنه إسلامياً.. وكم.. وكم.
لكن الأعمق من ذلك أنها صرخت منادية بالسؤال الصعب عن صلة الاعتقاد بالأخلاق، هل بينهما علاقة الحاكم والمحكوم؟ أم أنها تلازم محتوم؟ وأيهما يؤثر فى الآخر؟ وهل يكون الاعتقاد منصبغاً بما وقر فى النفس من قيم، أم ملطخاً بما يكتنفها من أمراض وعقد؟
وما هو مدى صحة رسوخ الاعتقاد فى مستنقع الكبر والبغضاء والانتقام؟ وما هو مدى ثبات الاعتقاد الذى لم يرتبط بالأخلاق؟
هل يمكن أن تقترن العصبية باليقين؟ أليست العصبية جاهلية؟ وهل يمكن أن يكون هناك يقين بغير طمأنينة؟ وهل تستمر غيرة المحب عمياء؟
وما مدى ما يبلغه نقاء الأخلاق التى لم ترتبط بالعقيدة؟ وما صلة ذلك بحديث (الناس كمعادن الذهب والفضة فخيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا)، وسؤال آخر مؤلم: هل تنفصل مشاعر المحب الصادق عن المحبوب لحظة الغضب له؟ وهل يبرر الغضب للمحبوب مخالفة حاله؟
قرأت لـ«حمزة» ولأصدقائه الليلة بتمعن، وبالرغم من ألمى الشديد من اللغة التى تكلموا بها فى بعض المواطن عن الذات العلية وعن الحضرة النبوية – بينما كانت بلاغة لغة الضاد متسعة للنقد والتساؤل والاستشكال بالحسنى – غير أن ألمى كان أكبر وأكثر بسبب إساءتنا نحن إلى الله ورسوله فى طريقة تعاملنا مع ما كتبوه، وفى إعراضنا عن صرخة أرواحهم فى وجوهنا، وكأن صراخهم نوع استغاثة لإيمان دفين فى قلوبهم، أبى أن يتعايش مع التناقض والتسطيح وباطن الإثم، وقد قرأت بين سطور ما كتبوا معاناة صادقة لصراع مع النفس ورغباتها، تغلبهم تارة ويغلبونها تارة أخرى، يستنجدون بطلب المعرفة وتستنجد بنتائج حيرة الفلاسفة الذين سبقوهم إلى طرح هذه الأسئلة، وتتعبهم جدية الصراع، فيفرون منها إلى عذوبة نغمة أو جمال قصيدة أو ترويحة سخرية أو غبطة إطراء، وربما نزوة علاقة!
ونحن عن ذلك كله غافلون.. غافلون عن صدّنا إياهم عن الله بغلظة خطاب أو ضيق أفق أو نبرة استعلاء أو عجز عن قولة لا أعلم.. وليتنا امتلكنا شجاعة قول لا أعلم، عوضاً عن أن نصك رؤوسهم بصخرة سطحية فهمنا لعظمة النصوص بدعوى الدليل، أو بمطالبتنا إياهم بأن يرتقوا مرتقى التسليم، فإذا سألونا عن الطريق إلى عليائه أشرنا – بغير تبصر – إلى منحدر إلغاء العقل.
ويا لها من جريمة أن نعبر عن التسليم بأنه إلغاء للعقل، مع أن التسليم هو منتهى أفق العقل، حيث يستنفد مداه ليسجد على عتبات العزة عند مطلع شمس الحقيقة، فلا يبقى بينها وبين الروح ستراً.
مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أعتابه يسجد العقل، ومن بلغ هذا المبلغ فتوقفه وتسليمه هو حيرة المعرفة وليس كسل العقل، والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومن لم تكن همته مسعفة له فى انطلاق العقل ففى إيمان العجائز سلامته وهو إيمان راق لأهله، غير كاف لغيرهم. ولم يبق سوى التأكيد على صدق غيرة الكثير ممن تجاوزوا الحد فى التشنيع على الشباب، فهم أيضاً ضحايا مستوى خطابنا وتعليمنا، كما كان تجاوز هؤلاء الشباب نتيجة لنفس السبب ولا أرانى متأليا على الله إن قلت إن الاثنين انطلقوا من نفس المنطق وهو مشكاة الحب، وإن تباينت لغاتهم وعباراتهم! عباراتهم شتى وحسنك واحد.. وكل إلى ذاك الجمال يشير.
ولكننا كثيراً ما نشير إلى الجمال بطريقة قبيحة فيسارع من حولنا إلى استبعاد أن يكون ما نشير إليه جمالاً.. ومع هذا يبقى الجمال هو الجمال.
وأخيراً فهذه نفثة مصدور أثقل كاهله شعور بالمسؤولية عن جيل يذهب ضحية سطحيتنا وأنانيتنا وعصبيتنا وتنازعنا واستعلائنا والأدهى من ذلك تظاهرنا بالمثالية التى أخشى أن أكون مغرقاً فيه حتى فى اعتذارى هذا!
و الأصعب من ذلك كله أن يكون التوقيع على هذه الكوارث نيابة عن رب العالمين، غفرانك اللهم ورحمتك وتداركك.