خاطرة الإثنين حول التعامل مع مفهوم الأدب مع ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
الحمد لله
رَوَت لنا الصِحاح مواقفَ أخطأ فيها عدد من ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، حتى إن بعضهم ارتكب أفعالا تُعدُّ من الكبائر فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحدود على من لم تكتنف معصيته شبهة تدرأ الحد عنه، ولم يُفرّق في ذلك بين الشريف والوضيع والغني والفقير، بل أقام العدل على أساس المساواة في المحاسبة وحفظ الحقوق حتى قال فيما رواه البخاري ومسلم: “أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، واَيـمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”، وحاشاها عليها السلام.
ومع ذلك أمرنا بالأدب مع الصحابة وبالكفّ عن التطاول على شريف مقامهم وما خُصّوا به من عظيم المنزلة ومَزيّة الصحبة فقال في الحديث المتفق عليه: “لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه”.
فكيف نفهمُ صدور مثل هذه الأخطاء عن الصحابة الكرام الذين جالسوا رسول الله؟
وكيف نفهم الأمر بالأدب معهم على الرغم من ذلك؟
إن عظمة الصحابة التي جعلت منهم قدوة أنهم لم يكونوا معصومين عن الخطأ، بل كانوا يتلقون المنهج عن المعصوم ويطبقونه بذواتهم غير المعصومة.
وبهذا يكونون قدوة لنا في التعامل مع الخطأ والمخطئ، ولو كانوا معصومين لافتقدنا هذه القدوة.
لقد علمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف ننظر إلى من أخطأ، فلا نحتقره، ولا نطرده، ولا نُغلق أبواب الرحمة دونه، لأن الله تعالى أرسله بالرحمة، {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرأة التي ارتكبت فاحشة “الزنا” ومجّدَ توبتها فقال فيما رواه مسلم في صحيحه: “.. لقد تابت توبة لو قُسِّمتْ بين سبعين من أهل المدينة لوَسعتهم..”.
تأمل.. كيف نقَل النبي أصحابه من انتقاص المُخطئ إلى النظر في توبته التي هي الجانب المشرق الذي أعقب خطأه بالرغم من بشاعة هذا الخطأ.
تأمل.. كيف أمره الله تعالى بأن يحترم المُخطئ والمُذنب من أصحابه، كي نتعلم من ذلك كيف نتعامل مع المُخطئ فلا ننتقص من آدميته، ولا نُلغي حقّه في إبداء الرأي، بل تجاوز ذلك إلى حدّ الأمر بمشاورتهم في أمور الأمّة، فقال تعالى: {.. فَاعْفُ عنهم واسْتَغْفِرْ لهم وشاوِرْهُم في الأمر..}
فالعفو يكون عن المخطئ والاستغفار يكون للمذنب، ومع ذلك فقد أمر الله أكملَ الناس عقلاً بأن يُشاور من كان قد صدر منه الخطأ والذنب، في أمر الأمّة.
- كل ذلك يُعلّمنا كيف نُفرّق بين الحرص على الإصلاح، وما يمكن أن تُلبّس علينا دوافع نفسية من داء الكِبْر والتعالي والقسوة، بالغيرة على الحق والدين والوطن والشرف.
وكثيرًا ما نُخطئ فنقيس رحمة الله على نفوسنا الضعيفة، ونقيس الهَدْيَ النبوي على فهمنا القاصر، مع أن المطلوب هو أن نُحكّم الله في أنفسنا ونحتكم إليه في منهج حياتنا ونُقدّم الهَدْيَ النبوي الشريف على تصوراتنا القاصرة، فتزكو نفوسنا وتتسع مداركنا، وندخل في عِداد المصلحين.
- ويُعلّمنا درسًا في الأدب مع الله، فعندما نرى من يُخطئ نُنكر عليه خطأه وننهاه عنه بالمعروف ونبذل له النُصح، وندَعُ شأن معاقبة من استحق العقوبة للدولة فهو واجبها وهي المسؤولة عنه، فإن قصّرت فيه فعلينا مطالبتها بإقامة العدل، مع السعي في الصلح بين المتخاصمين، والترغيب في العفو، دون أن نفتئتَ على اختصاص الدولة بتولي المحاكمة أو بتنفيذ العقوبة.
وليس لنا مع ذلك أن نتطاول على من أخطأ أو نتألّى على الله بالطعن واللعن، واللمز والغمز، والتحقير والانتقاص لأحد من خلقه، أو أن نجزم بمصيره ومآله، فذلك من باطن الإثم وظاهره لما فيه من منازعةٍ لاختصاصات الربوبية.
- ويُعلّمنا أن نُفرّق بين الخطأ والمُخطئ، فنرفض الخطأ ونقبل المُخطئ، وكلنا مُعرّض للوقوع في الخطأ، ونُحبُّ حينئذ أن يتقبّلنا مجتمعنا في حال رجوعنا عنه، بل إننا نُحبّ أن يَتلطّفوا بنا في النصيحة حال ارتكابنا للخطأ وأن لا يُغلظوا لنا القول كيلا تنفرَ نفوسنا عن الحق ويأخذها الكِبر.
كذلك ينبغي أن نعامل المُخطئ، بما نُحب أن نُعامَل به حال وقوعنا في الخطأ؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه”. رواه البخاري ومسلم.
- ويُعلّمنا كيف تكون مجتمعاتنا “صالحة” و “مُصلحة”، وليست طاردة أو مُنفِّرة، فلا تكون المجتمعات “صالحة” مهما تظاهرت بالصلاح إن لم تكن “مُصلِحة”.
- ويُعلّمنا أن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتوقف عند حد الألفاظ بل يكون نابعًا من قلوب تَملَؤها الرحمة وعقول تُزينها الحكمة وتصرفات يكسوها الأدب.
- ويُعلّمنا أن أخطاء أفراد من الصحابة، أورثت كمالاً في مجتمعهم، نتعلم منه كيف تُصوّب الأخطاء لتستقيم المجتمعات.
فلهم رضي الله عنهم ما للمُعلِّم من الأدب والاحترام.
وبهذه النظرة العميقة والمستوى الراقي في المعاملة انتشر الإسلام، وشَعُرت الأُمم بحاجتها إليه، فاعتنقته عن إيمان وقناعة.
وعندما تخلّفنا عن هذا المستوى تقلّص دورنا في نشر الاسلام والترغيب فيه، وتخلّفنا عن حقيقة الدعوة مع كثرة من يحملون لقب “الداعية”، بل لقد بدأ الكثير من أبنائنا يتشككون في سماحة دينهم، ويرتدّون عنه، ذلك لأننا قدّمنا الإسلام مشوبًا بِعِلل نفوسنا وضيق مفاهيمنا ورُعونة تصرّفاتنا.
وهنا يَظهر مدى تَخلُّفِنا عن الهَدْيِ النبوي الشريف ومسلك السلف الصالح، وعندما نجد أن نظرتنا إلى من يُخطئ وطريقة تعاملنا معه مخالفة لهذا الهَدْيِ نُدرك مدى الخلل الذي نعيشه في حياتنا، ونكتشف مدى الزيف الذي قد يعتري تديننا.
وأخيرًا..
لعله اتضح من هذه الأسطر كيف نفهم الأخطاء من بعض الصحابة، وكيف نفهم الأمر باحترامهم والأدب معهم، وكيف نستفيد من ذلك في تزكية أنفسنا وإصلاح مجتمعاتنا.
{والذينَ جاءوا مِنْ بعدِهمْ يقولونَ ربَّنا اغفرْ لَنا ولإخوانِنا الَّذينَ سَبَقُونا بالإيمانِ ولا تجعلْ في قُلوبِنا غِلًّا للذينَ آمنوا ربّنا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيْم}.
اللهم ارزقنا قلوبًا رحيمة وعقولاً حكيمة ووفّقْنا للمسالك المستقيمة يا حق يا مُبين.