خاطرة الإثنين حول جدلية الإنسانية والتديّن
الحمد لله
أرسل أحد الأفاضل صورة لرجل خاطر بنفسه لإنقاذ بطة سقطت في مجرى تصريف المياه وذكر أنَّ جدلاً دار بينه وبين أحدهم حول ما فعله هذا الرجل من تعريض نفسه للخطر كي ينقذ هذه البطة.
وصدمه قول صديقه: إنَّ هذا الفعل محرم شرعًا لأن الرجل عرض نفسه للخطر من أجل “بطة” والنفس أمانة لا يجوز تضييعها!
فكان مستغربًا من هذا الجواب، بل كان استغرابه في أن يكون هذا الموقف الإنساني النابع عن الرحمة بحاجة إلى سؤال الشرع عن جوازه من عدمه!
وهذا الاستغراب فيه جوانب من الحق لأن الشريعة جاءت لتُعيد الإنسان إلى جادّة الفطرة السليمة التي فطره الله عليها، وبتعبير آخر جاءت تعيد للإنسان إنسانيته، وتُقوّم انحرافه عن مساره في الاستحسان والاستقباح، والقبول والرفض، والإقدام والإحجام.
فكيف يُتصَوَّر أن يحتاج الإنسان إلى “فتوى” في استجابته التلقائية لداعي الرحمة؟!
وكيف تَحوَّل تناولنا لأحكام الشريعة السمحة إلى التعامل الآلي مع النصوص دون استشعار لمقاصدها إلى درجة صرنا فيها بحاجة إلى إثبات أن تصرّف الإنسان التلقائي بدافع الرحمة أمر يقبله الشرع؟!
لقد جعل الله الرحمة التي تتراحم بها جميع المخلوقات فرعًا عن رحمته تعالى بهم فقال ﷺفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما: “جعل الله الرحمة مائة جزء؛ فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها؛ خشية أن تصيبه”.
فكيف يُتصَوَّر أن تعتبر الشريعةُ اندفاعَ ذلك الرجل التلقائي بدافع الرحمة لإنقاذ البطة إثمًا أو حرامًا، وهذه الرحمة التي وجدها في قلبه إنما هي من رحمته تعالى التي قسمها بين عباده؟!
إنَّ الله بعث سيدنا محمدًا ﷺ رحمة للوجود فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْن}. وجعل الرحمة بين الناس سبيلاً لنيل رحمة الله ورضوانه؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أن أحد قساة القلوب من الأعراب رأى رسول الله ﷺ وهو يُقبِّل سِبطَه الحسن عليه السلام فقال إنّ لي عشرة من الولد، ما قبَّلتُ واحدًا منهم، فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال: “مَن لا يَرحم لا يُرحم”.
وأخرج البخاري قوله ﷺ: “إنما يرحم الله من عباده الرحماء”.
وأول ما يتلقاه طالب علم الحديث عن شيخه هو الحديث المسلسل بالأولية: (الرّاحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا مَن في الأرض يرحمْكم مَن في السّماء”.
وحديث المرأة المومس التي غفر الله لها برحمتها الكلب الذي رأته يلعق الطين من العطش فسقته بخُفِّها.
والمرأة التي تصوم وتصلي وتتصدق ولكنها “تؤذي” جيرانها فقال إنها في النار، بينما الأخرى التي تؤدي الفرائض وتتصدق بالقليل ولكنها لا تؤذي جيرانها فقال هي في الجنة. وغيرها من الأحاديث التي تزخر بها كتب السنن.
بل لقد ضرب صلى الله عليه وآله وسلم المثل لرحمة الله تعالى، وهي رحمة مطلقة، برحمة أم بولدها وهي رحمة إنسانية فطرية، فقال في حديث البخاري ومسلم عن الأم التي وجدت ولدها بعد أن أضاعته فسارعت إليه واعتنقته وارضعته: “لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا”.
فإذا كانت النصوص واضحة الدلالة على هذا المعنى فكيف وصلنا إلى هذا المستوى من تَوهُّم تباين التدين عن الإنسانية؟
الحقيقة أن المشكلة تكمن في فهمنا لصلة “التدين” بالإنسانية؛ أكرر “التدين” وليس الدين، فالدين جاء لإنقاذ آدميتنا من أهواء أنفسنا التي تدمرها.
إن الإنسانية هي وعاء “التدين” إن استقامت استقام، وإن انحرفت انحرف.
فالخوارج الذين قتلوا سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه كانوا متدينين وظنوا أن فعلهم الآثم هذا قربة يُتقرَّب بها إلى الله تعالى، وكذلك بقية جرائمهم.
وحتى خوارج العصر الذين يقتلون ويُمثِّلون بالجثث، ويُنفّذون العمليات الانتحارية هم يفعلون ذلك تدينًا وليس للارتزاق المالي كما يحاول البعض ترويجه، فالذي يضحي بحياته فيما يظنه استشهادًا ليس بطالب مال. فما الذي جعل تدينه يوصله إلى استباحة قتل الأبرياء من النساء والأطفال وغير المقاتلين؟
إنه الخلل الذي أصاب إنسانيته فجعل وعاء تدينه عاجزًا عن الاستجابة لطهارة الدين الذي يُصَبُّ فيه، بل أصبح مُدنِّسًا لتديُّنه.
وهذا الخلل هو من أعراض فلسفة ما بعد الحداثة المعاصرة التي ضخّمت أنانية الفرد على نحو غير مسبوق في العصور السابقة، فأصابت الإنسانية في صميم فطرتها، وصرنا نسمع بكثرة عن الأم التي تقتل طفلها لأنه أزعجها بصراخه، والأخرى التي تقتل أولادها لتعيش مع عشيقها، والآخر الذي يُقطّع أوصال زوجته ويضعها في الثلاجة ليأكلها؛ وكل هؤلاء غير متديّنين، أو على الأقل لم يكن التديّن دافعَهم إلى ارتكاب هذه الجرائم الشنيعة.
وبالرغم من أن الوحشية في القتل بدافع العنصرية الدينية والعرقية والطبقية أمر متكرر في تاريخ البشرية غير أنه لم يبلغ في أقسى صوره وأقصاها هذا المستوى الذي نعيشه اليوم، فقد حصدت الحروب العالمية في عصرنا ما يزيد عن المائة مليون إنسان، وقد أفنى ستالين بدعوى الشيوعية وحقوق الكادحين عشرات الملايين من الكادحين أنفسهم، وجرائم هتلر العرقية تجاه اليهود والغجر، ومجازر الصرب في البوسنة والبوذيين في بورما والمسيحيين في أفريقيا الوسطى واليهود في فلسطين، وغيرها مما لا يتسع المجال لسرده.
بل لقد سقطت ثقافتنا في وحل النسبية المطلقة التي تُنكر وجود الفطرة السليمة والثوابت القيمية، وأضاف زماننا إلى جرائم التاريخ جريمة هتك الإنسانية بدعوى الانتصار لحقوق الإنسان، فتم تجويع شعوب وتشريد آخرين وتخريب أوطان وهدم دُول وإزهاق أرواح مئات الآلاف من البشر بدعوى تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان!!
وما نشهده اليوم من تكرار فظائع التمثيل بالجثث واللعب بالرؤوس لعب الكرة واستحلال قتل الأبرياء تحت دعوى العمليات الاستشهادية، بل وانتشار ثقافة التلذذ بالقتل على هذا النحو ما هو إلا جزء من نتاج هذه المنظومة الفلسفية الحداثية المعاصرة وإن لبست ثوب الدين مستندة إلى الفهم الضال للنصوص الشرعية، ومجافية مناهج الفتوى المعتبرة.
بل إنّ الخروج عن نسق مناهج الاستدلال، واستنباط الأحكام من النصوص، والاجتراء على الفتوى دون تخصص، هو من نتاج ثقافة ما بعد الحداثة التي تنبذ الاعتراف بالمرجعية الشرعية وتسخر من الموروث وتخلط مفهوم حرية الفكر وحرية التعبير بالفوضى والتطاول وتَسَوُّر السياقات التخصصية.
وأخيرًا،
نحن بحاجة إلى إعادة تصحيح مسار تديننا نحو إحياء إنسانيتنا لتستقيم فطرتنا.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
اللهم أحيِ قلوبنا بمعرفتك وبَهِّج أرواحنا بمحبتك وزكِّ أنفسنا بطاعتك وأرشد عقولنا بالتفكر ووفق أجسادنا للخدمة، يا حي يا قيوم.