يواصل الداعية الإسلامي، الحبيب علي الجفري، حواره مع المصري اليوم، ويستكمل في الجزء الثاني من الحوار حديثه عن تهجمات الوهابية عليه، التي وصلت إلى حد تكفيره، مؤكداً أن التكفير يكون بحكم من محكمة شرعية وليس بفتوى يفتي بها كل من أراد، على حد قوله.
كما يتناول الحقيقة وراء ما أثير حول تشيعه، وقال:إن أهل السنة فقدوا الرجوع إلى المراجع الحقيقيين فيهم، ومن ثمّ أصبح زمام تصرفات السنّة ليس إلى المراجع الحقيقيين وإنما للناس الأكثر شهرة والأقدر مؤسسة ومالاً، والذين تَهُب رياح السياسة لصالحهم»، وهو ما جعلهم عاجزين عن استيعاب غيرهم، على حد وصفه.
وأشار إلى أن أصوات المتطرفين اليوم أصبحت «الأعلى»، مؤكداً أن التصوف بات «الاختيار الثالث» البديل عن التشدد والتطرف من جهة، والانحلال من جهة أخرى، وقال: «التصوف هو- فيما أعتقد- القادر على أن يكون سفير سلام حقيقيًا فى العالم».
وأضاف: «لا أستطيع أن أرى راية جهاد حقيقية، وهنا أقول حقيقية وليست إجرامية باسم الجهاد، لم يكن الصوفية في قيادتها». مبدياً استياءه من زيادة «المتجرئين على الفتوى»، وقال إن الفتوى أصبحت «سوق من لا سوق له»، مشيراً إلى أن بعض الأنظمة تدعم مثل هذا الأمر ظناً منها أنه سيكون جاداً فى محاربة الإرهاب، على حد قوله، وهو ما وصفه بـأنه «لعب بالنار».
يتناول الداعية الإسلامي، الحبيب علي الجفري، الفتن التي يعاني منها العالم الإسلامي في الوقت الحالي، ويطالب في هذا الشأن بإعادة النظر في أدوار الأسرة والمدرسة والإعلام، والمساجد. ويبدي تخوفه مما وصفه بـ”الفتاوى الشاذة”، مؤكداً أنها من “لعب بالدين”، وأن الفتوى ممارسة وليست حرية تعبير عن الرأي، وقال: “من الظلم الشديد أن أحاكم مجموعة من الشباب المتحمس لأنهم فجروا سياحاً أو ضربوا منطقة، وهو لا شك إجرام، وأترك من أفتاهم بجواز ذلك طليقاً، فلولا الفتوى ما فعلوا ذلك”.
ويكشف الجفري عن أنه لم يدخل المملكة العربية السعودية منذ سنتين، ولم يزر الروضة الشريفة من وقتها، وهو ما يستعيض عنه بزيارة الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه، حسب قوله، لدرجة أن أول ما قام به لدى نزوله في مطار القاهرة، أنه زار المقام،
وحول عمليات التنصير التي تحدث من وقت إلى آخر قال: “هناك تنصير عالمي منظم، لا أظن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية طرفاً فيه، لكن هناك حركة تنصيرية عالمية تعمل بأجندة مؤسسية تخدم بدعم ضخم، تشكل خطراً على استقرار وأمن الأقليات المسيحية في الدول أكثر مما تشكل خطراً على المسلمين أنفسهم”.
وإلى التفاصيل…
لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
- الفهم المباشر والساطع كنور الشمس أن الإسلام دين الله، وأن الله متكفل به وقائم عليه، ولا تضره إساءة المسلمين ولا يزيده إحسانهم والإسلام سينتشر ولن يبقى بيت على وجه الأرض إلا وسيدخله الإسلام، قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما معناه:” لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ ” وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها” ، واضح في بيان ذلك، لكن الخوف والقلق في الحقيقة ليس على الإسلام، وإنما علينا نحن معشر المسلمين في أن نكون سبباً في حجب الخلق عن معرفة الإسلام، فيحاسبنا الله عز وجل يوم القيامة، بأننا صددنا الناس عن الإسلام، فالعالم في عطش للإسلام، لأن مبادئه موافقة للفطرة السليمة.
وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها
- أحد المثقفين الغربيين الذين أسلموا، البروفسور عبد الحكيم ونتر، وهو أعمق مفكر مسلم في الغرب من وجهة نظري، وهو أستاذ في جامعة كامبريدج، كان يقول إن من أكبر دلائل عظمة الإسلام أن اقتنع به على الرغم من حال المسلمين، والإسلام هو الأول في قائمة أسرع الديانات انتشاراً بالولادة في الغرب والثاني انتشاراً بالاعتناق بعد البوذية، وهذا يرجع إلى أن البوذيين نجحوا في مخاطبة الغربيين عن ديانتهم بالطريقة التي تفهمها ثقافة ونفسية الإنسان الغربي، وهذا الثغر هو فرض الكفاية الذي لم يقم به المسلمون فيما أعلم إلى الآن.
نجحت البوذية في مخاطبة الإنسان الغربي بما يفهمه
مرجعها إلى عدة أشياء تراكمت، أولها هو أن أهل السنة- ولتسامحني الطوائف الأخرى فيما سأقوله، وليسامحني أيضاً أهل السنة- فقدوا الرجوع إلى المراجع الحقيقيين فيهم، ومن ثمّ أصبح زمام تصرفات السنة ليس إلى المراجع الحقيقيين وإنما للناس الأكثر شهرة والأقدر مؤسسة ومالاً، والذين تَهُب رياح السياسة لصالحهم.
أهل السنة فقدوا مرجعيتهم الحقيقية وأسلموا زمامهم لمرجعيات أخرى
وهذا إشكال، لكن ما صلة هذا الإشكال بسؤالك؟ الصلة أن أهل السنة- وهم الأكثرية العظمى من المسلمين- كانوا فى العصور التى تنبع فيها قناعاتهم عن مراجعهم الحقيقيين أكثر قدرة على استيعاب الطوائف الموجودة فى جسم الإسلام، بل الملل الأخرى التى تعايشهم وتواطنهم من غير المسلمين، ولما فقدوا الرجوع إلى المراجع الحقيقيين من أهل السنة أصبحوا عاجزين عن استيعاب غيرهم فبدأوا بلغة الإقصاء، أو ردة الفعل بالإقصاء.
الإشكال الثاني أن أصوات المتطرفين اليوم عند الطوائف المختلفة هى الأعلى، وفى كل حقب التاريخ كانت أصوات المتطرفين الأحدّ ولم تكن الأعلى، لأن الأعلى كان لمن يُرجع إليه ويثق الناس في دينه.
خطأ تاريخي أن تدخل الأنظمة لعبة التوازنات الطائفية في حساباتها
الإشكال الثالث أن هناك أنظمة سياسية محلية وعالمية أدخلت الطائفية في محيط لعبة التوازنات السياسية- وهذا خطأ تاريخي كبير ترتكبه هذه الأنظمة- وظنت أن هذا قد يفيد سياساتها استراتيجياً وتكتيكاً، وهذا وإن نجح على المدى القصير أحيانا لكن سيكون ضرره كبيراً على المدى المتوسط والبعيد حتى عليهم هم.
دعنا أولاً نتفق على مصطلح الصوفية قبل الإجابة، لأن من مشكلات عصرنا اليوم أن المصطلحات غير محددة، فعندما أقول صوفية قد يختلف المفهوم عما تقصده أنت من الصوفية، فإذا اتفقنا على أن التصوف هو العلم الذى يعنى بصلاح القلوب وأن مرجعيته إلى الكتاب والسنة وأقوال المجتهدين من أهل العلم فلا أعتقد أن مسلماً على وجه الأرض لا يكون التصوف قريباً إلى قلبه.
ثانياً: التصوف هو المؤهل عالمياً لأن يكون سفير السلام الحقيقي إلى العالم.
التصوف سفير السلام الحقيقي إلى العالم
ثالثاً: أجدنى مضطراً إلى أن أعيد إلى الذاكرة شيئاً يدفع بعض الأوهام التى يروج لها من جعل حرب الصوفية قضيته في زماننا، وهى أن التصوف الذى ذكرناه لم يخلُ عن دور في جميع مناحي الحياة، لا في السياسة ولا في الاقتصاد، ولا حتى في الناحية العسكرية، فالذين قادوا الجهاد في سبيل الله في مصر ضد الفرنجة في الحروب التى سُميت بالصليبية، هم العز بن عبدالسلام، وأبو الحسن الشاذلى، وأحمد البدوى، رضوان الله عليهم أجمعين.
وأيضاً في الحرب مع التتار، الذين اقتنع بسببهم المغول بالإسلام وبهم تحولت الكفة، كانوا من أهل التصوف، وفي الجزائر قاد الجهاد الأمير عبدالقادر الجزائري، وهو من الصوفية، وفي ليبيا عمر المختار، وهو من الصوفية، وفي إندونيسيا الذين قادوا الجهاد ضد المحتلين البرتغال ثم الهولنديين هم الصوفية.
لم ترتفع راية جهاد حقيقية إلا بقيادة صوفية
في حضرموت عندنا توجد قبور يسمونها «السبعة الشُهداء» في مدينة الشحر، هى لعلماء أهل السنة والجماعة من الشافعية كانوا على مشرب أهل التصوف، وهم الذين قادوا أهالى الشحر للمقاومة الشعبية وصدوا الأسطول البرتغالى، القوة العظمى في ذلك الوقت. فلا أستطيع أن أرى راية جهاد حقيقية، وهنا أقول حقيقية وليست إجرامية باسم الجهاد، لم يكن الصوفية في قيادتها، ولذلك استطاعوا أن يتخذوا القرارات الصائبة.
لماذا قاتل الإمام شامل الذي كان من مشايخ الطريقة النقشبندية روسيا القيصرية عندما اعتدت على القوقاز؟ ولماذا أوقف الحرب بعد قتال شجاع مضن؟ ولماذا قاتل الأمير عبدالقادر الجزائري وخاطر بنفسه؟ ولماذا أوقف القتال؟ فقرار الإقدام أو الإحجام بحاجة إلى التصوف الذي يجعل الإنسان يقرر بناءً على الصدق مع الله عز وجل، وليس بناءً على انفعال يتعلق بسمعته وشهرته.
حدثت فتنة في الشام في ذلك الوقت بسبب الاحتلال الفرنسي، إذ حدث تأليب بين المسلمين على المسيحيين الشاميين، وكادت أن تشتعل نارٌ طائفية إبان الاحتلال الفرنسى فقام الأمير عبدالقادر الجزائري مع عسكره وأسلحتهم، وباتوا الليل يحرسون الأحياء المسيحية هناك، حتى لا يأتي الغاضبون المسلمون ويقتلونهم، وكان الأمير عبدالقادر الجزائري عندما يشحذ همم جنوده في حراسة المسيحيين السوريين من أن يعتدى عليهم أحد الغاضبين المسلمين، يقول: «الذي نرجوه من الله من الأجر في جهادكم هذا لا يقل عما كنا نرجوه من الأجر في جهادكم ضد المحتل الفرنسى في الجزائر»، ولكم أن تراجعوه فى كتاب «تحفة الزائر في مآثر الأمير عبدالقادر والجزائر»، هذا الكلام فيه عمق كبير في فهم ما نحتاجه اليوم فلا شك أن كل مسلم بحاجة لمثل هذا المسلك.
هذا يحتاج إلى جهاد فكرى سلوكى دعوى، فالتصوف شىء وما يدعيه البعض أنه تصوف، شىء آخر، ويشبه ذلك، مع الفارق، ما يحدث اليوم من نظرة العالم إلى الإسلام، فهناك من المسلمين من ارتكب أعمالاً إجرامية باسم الجهاد والإسلام، فاستغل البعض هذه الممارسات الخاطئة لتشويه الإسلام وصار العالم ينظر إلى الإسلام نظرة اتهام.
وفي داخل المجتمعات المسلمة كذلك مارس البعض ممن ادعوا التصوف من «المتمصوفة» بعض الممارسات الخاطئة والمخالفة، والبعض منها شنيع، فاستغل ذلك وللأسف بعض التيارات الإسلامية، بما تملك من إمبراطورية مؤسسات إعلامية واقتصادية وتعليمية، لوصم التصوف بهذه الأعمال، تماماً كما يقول اليمين المتطرف في الغرب واللوبى الصهيونى بأن الإسلام إرهابي قاتل، بسبب أن بعض المسلمين قتلوا.
لكل علم ومجال أدعياء لكن لا يحسبون على الأصل ولا التيار العام
تقول هذه التيارات إن التصوف مبتدع شركي ضلالي بسبب ممارسات أشخاص، ودعني هنا أقل شيئاً وهو أنه لا يوجد علم من علوم الشريعة إلا وانتمى إليه أناس من غير أهله من المدعين، علم التوحيد ادّعى الانتماء إليه وحاول استغلاله المعطلة والمجسمة، وعلم الفقه دخله فقهاء السلطان والخوارج، وعلم الحديث دخل فيه الوضاعون والكذابون على رسول الله، وكذلك علم التصوف دخل فيه المرتزقة والجهلة والمدعون وغيرهم.
وفي الوقت نفسه ينبغي أن نؤكد أنّ كل علم من هذه العلوم يملك داخلياً مقومات التقويم إذا أفسح له المجال، فكما أن علماء العقيدة حرروا الردود على شبهات المعطلة والمجسمة، وكما أن علماء الحديث حرروا آليات تمييز الحديث الصحيح من غيره، كذلك فعل علماء التصوف؛
فالذي يرجع إلى كلام حجة الإسلام الإمام الغزالي المتوفى سنة 505 للهجرة يرى ذلك جلياً، بل قبله الإمام القشيري المتوفى سنة 465 في الرسالة القشيرية، إذ ذكر في مقدمة الرسالة أن سبب كتابته للرسالة ظهور أدعياء على التصوف من غير أهله، فكان فيه نقد للذات.
للصوفية محتسبون يراجعون ممارسات أتباع عصرهم باسم التصوف
ومن المتأخرين جاء الإمام أحمد زروق رحمه الله، من ليبيا، ولُقب بـ”محتسب الصوفية” لشدة ما أنكر على متصوفة عصره من الذين خالفوا الشريعة فيما يفعلون باسم التصوف. وكان من أعظم الناس الذين قاموا بذلك في عصرنا – لكن للأسف لم يُهتم به إعلاميا ولم يُفعّل مؤسسياً – شيخنا محدث مصر الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم، رائد العشيرة المحمدية، وشيخ الطريقة الشاذلية، عضو هيئة كبار العلماء في مصر، رحمه الله. ولو رجعت إلى كتاباته وإلى أشرطته المسجلة ستجد نقداً لاذعاً لمتصوفة العصر، ولكنه نقد بناء وليس بهدام، إذاً هناك تصحيح داخلي.
لنمتلك شجاعة نقد الذات بدلاً من الانفعالات
دعني أقول أيضا كلمة إلى أحبابنا من أهل الانتماء إلى مشرب التصوف، لنكن صادقين ولنكن صوفية حقيقيين، نمتلك الشجاعة في نقد ذاتنا، بدلاً من الغضب من الذين يهاجموننا والاشتغال بالرد عليهم واعتبار أن كل ما نقوله وما نفعله صواب لا يحتمل الخطأ، والعكس عند غيرنا.
وكلمة أخرى إلى ساداتنا العلماء الذين أحجموا عن أداء دورهم في تفعيل التصوف الحق، إما خجلاً مما رأوه انحطاطاً في مجتمع التصوف أو مراعاة لنفوذ المؤسسات الدينية أو السياسية المضادة للتصوف من باب المداراة أو المداهنة، أقول لهم تذكروا العهد الذي أخذه الله عليكم في تبيين الحق.
لا تخلو منهم بلد
- ردّ سريعاً دون تردد: «لا تخلو بلد، لا تخلو بلد»، ثم قال:
يقول قوم عن هداهم ضلّوا
قد عُدموا في عصرنا أو قلوا
فقلت كلا ولكن جلّوا
عن أن تراهم أعين الجهال
أضحت الفتوى كلأ مباحاً وسوقاً لكل راكد وفاسد
أجاب سريعاً: في كل مكان، أصبحت الفتوى «سوق من لا سوق له»، أسمع بعض القنوات تقول: «منبر من لا منبر له»، فالذي فشل في أي مجال فكري أو فلسفي أو أدبي أو أكاديمي أو وجد سوقه فيها غير رابحة، يتهجم على الفتوى، ويصدر فتوى مخالفة للإجماع، فيجد نفسه المفكر والمجدد والمتحرر والمنطلق وصاحب الفهم الحقيقى للإسلام، وبسبب نقص العلم أو عدم الرجوع إلى أهل العلم عند بعض أنظمتنا، تدعم مثل هذا الأمر ظناً منها أن هذا سيكون جاداً في محاربة الإرهاب، وهذا لعب بالنار، وأول نتيجة خطيرة قد نجنيها لا قدر الله من وراء ذلك أنه سيدعم الإرهاب.
عندما تضع الإنسان الملتزم المتدين أمام خيارين وتغيب الثالث، إما أن يكون متشدداً متنطعاً، وإما أن يكون منحلاً عن ربقة الشريعة، وعندما تقدم مثالين من الناس، فلاناً وفلاناً، هذا يقول: التى لا ترتدى النقاب في النار، وهذا يقول: من حقها في الإسلام أن تخرج شبه عارية وتمارس الرذيلة ما دامت مختارة، فهو لن يأخذ بالرأي الأخير.
الصوفية خيار ثالث بين التنطع وبين الانحلال
كل من أراد أن يتدين بشىء من الجدية ولم يجد الخيار الثالث، سيذهب إلى الخيار الأول، ولذلك هؤلاء هم من أكثر من يدعم ويغذّى التطرف في منطقتنا، بقدر ما تعلو أصوات المتجرئين على الفتوى، المبيحين ما لم يبحه الله عز وجل، المتجرئين على الدين، يكون دعم التطرف في منطقتنا، والوهابية على ما فيها أقرب إلى قلبي من هؤلاء المنحلين.
اضطهد الاستعمار الصوفية لأنهم هم من قاوموه
الخيار الثالث موجود ويعمل، ولم يتوقف قط في تاريخنا عن العمل، الإشكالية تكمن في جزئيتين، جزئية تكمن في داخل بيت الخيار الثالث، وهي أنه بحاجة إلى الأخذ بالأسباب المتعلقة بالعمل المؤسسي والتركيز على البناء. تعلم أن أصحاب الخيار الثالث كانوا هم الأكثر والسواد الأعظم، وهم الذين قاوموا المحتل ولذلك ضُربوا في نهاية عهد الاحتلال. ولا أريد دائماً أن أُعلّق المسائل على شماعة الاحتلال لأن هذا يعطلنا عن العمل، ولكن دعني أوصّف الأمر سريعاً، فالمحتل هو الذي أضعف الخيار الثالث في آخر أيامه لأنه هو الذي قاومهم، وإلى أن بدأ يستعيد الخيار الثالث عافيته، كانت الآراء المتطرفة قد برزت وتنامت في الاتجاهين، التطرف الديني والتطرف اللاديني، التطرف المحافظ والتطرف الليبرالي، وكان السوق قد عجّ ببضاعة التطرفين، وكانت قد توافقت بعض الأنظمة السياسية مع هذا، والأخرى مع ذاك، وأبرزته وأقامته، وهذا شيء في داخل الخطاب، نحن بحاجة إلى إعادة ترتيب الصفوف، وإلى الخطاب الإسلامي الحقيقي من جديد.
ثانياً نحن بحاجة إلى أن يكون لإخواننا الإعلاميين والمثقفين دور في ذلك، بأن يعينونا على فهم آليات التخاطب مع عقليات الناس لسبب عميق وهو أن الذي يتربى تربية أصيلة في بيت الخطاب الإسلامي الحقيقي الأصيل، يتربى على منظومة قيمية ومبادئ معينة تؤثر إيجابياً على تعاملاته مع الناس، فيتعامل برقي، وهذا الرقي لا يُفهم بسهولة، ولا يلفت الأنظار وليس له صوت حاد يشكل إثارة، وليس بقابل لأن يكون جزءاً من لعبة التوازن السياسي، فكيف يجد من يتبناه إذاً؟ نحن بحاجة إلى أن تكون هناك قناعات حقيقية لدى إعلاميينا، وأنظمتنا وحكوماتنا وفي صنع القرار،
كذلك لدى السياق الأكاديمي أحتاج إلى شخص يجلس معي ويشرح لي فلسفة ما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة، أو عصر ما بعد التفكيك كما يسميها البعض التي على أساسها يتصرف العالم والمجتمع الدولي اليوم، حتى أفهم لماذا يفعلون ذلك، وأنا أرى بعض المشايخ الواعين في الشريعة يصدمون ببعض التصرفات غير المقبولة وغير المفهومة من طرف الغرب على سبيل المثال، ولو شُرح لهذا ودُرست له المنطلقات الثقافية التي انطلق منها الآخر لفهم كيف يخاطبه؛ ولما عاش أسيراً لنظريات المؤامرة والحقد على الإسلام وأمثالها. فهناك إشكال فهم بيننا وبين الثقافات الأخرى موجود داخل الخطاب الإسلامي.
فهذا دوركم معشر الإعلاميين، ودور القرار السياسي، والتعليم، والتعليم العالي، ودور المثقفين؛ بمعنى أننا نحتاج إلى فتح جسور للتفاهم، وفتح أبواب لتجسير الهوات، وأدعو سادتي العلماء والدعاة إلى أن نحيي فيما بيننا سُنة نقد الذات، وأن نبدأ النظر إلى ما يحيط بنا بتفهم، وألا نتعجل الحكم على من يحيط بنا، وأن نتقبل حتى فكرة وجود من يسيء إلى ديننا في نقده؛ فلا نقبل إساءته ولا نسكت عليها، ولكن نقبل فكرة أنه إنسان وفيه من الخير ما يمكن أن يُخاطب به، حتى لا نعطي الأعداء هدايا مجانية من البشر والمؤسسات التي تحيط بنا.
- أولاً: بالرغم من صعوبة الوضع اليوم إلا أنه لا يوجد أمر شرعي تعم استحالة إمكانية العمل به، يقول الله سبحانه وتعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)، فإذا صار أمراً من الله وتكليفاً، فهذا معناه أنه في الوسع، ولكننا فهمنا الآية بالعكس، وتحايلنا على الالتزام.
دعوة إلى الاهتمام بأحاديث الفتن ضمن علم المستقبليات
ثانياً: هذه الفتن أخبر عنها الحبيب، صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تغب عن تشريعنا في ديننا، وهنا أوجه دعوة إلى علماء الشريعة وإلى الباحثين بالاهتمام بالأحاديث التي تتحدث عن فتن آخر الزمان بمستوى ناضج يعمق الأمر، وليس بمستوى الكتب الاستهلاكية التى تباع في السوق، لأن في أحاديث الفتن إخباراً عن كل ما نحن فيه اليوم.
يقول عدد من الصحابة: صلى بنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الصبح فخطبنا إلى الظهر ثم نزل فصلى الظهر، ثم خطبنا إلى العصر فنزل فصلى العصر، ثم صعد فخطبنا إلى المغرب وحدثنا بما هو كائن فأعلمنا أحفظنا «والحديث صحيح»، وفى حديث صحيح آخر قام فينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابى هؤلاء فإنه يكون منه الشىء قد نسيته فأراه فأذكره كما يعرف الرجل وجه الرجل غاب عنه»
وعندما تدرس دراسة تحليلية معمقة لفتن آخر الزمان ستلاحظ أن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يذكر لنا:
كيف ندرس فتن آخر الزمان؟
١- الفتنة باعتبارها حدثاً أو سياقاً.
٢- يذكر العمق المتعلق بالمبادئ والأخلاق والفكر فيها.
٣- يذكر التصرف المطلوب تجاهه.
على سبيل المثال يقول النبى، صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض أحد لله فيه حاجة وحتى توجد المرأة نهاراً جهاراً تنكح وسط الطريق لا ينكر ذلك أحد ولا يغيره فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول: لو نحيتها عن الطريق قليلاً فذاك فيهم مثل أبى بكر وعمر فيكم».
فهذه دلالة عميقة وكبيرة وتتفرع عنها مفاهيم وآليات، إذ يقول إنه فى آخر الزمان سينقشع الحياء، وإن العلاقة الغريزية بين الرجل والمرأة ستُنتهك الخصوصية التي فيها، وستحدث مجاهرة بالمعاصى، وستتبلد مشاعر الناس تجاه ذلك، وستوجد أنظمة تحمي هذا الفساد بحيث لا يستطيع أحد أن يمنع أو يقاوم، وسيبرر ذلك فكرياً وثقافياً إلى الحد الذي لا يستطيع فيه التقى أن يفعل شيئاً أكثر من أن يقول: «لو سمحتم استتروا».
أعود وأقول إن هناك فتاوى وغيرها من الموجودة اليوم في عصرنا الخارقة للإجماع المخالفة للنفس السوية المرفوضة فطرياً، سببها يرجع أولاً: إلى الحاجة إلى إعادة ترتيب وبناء بيت الفتوى في العالم الإسلامى.
كثرت الفتاوى خارقة الاجماع المخالفة للنفس السوية بزعم حرية الرأي
ثانياً: احترام أن الفتوى اختصاص وليست حرية تعبير عن الرأى، فهناك خلط بين حرية التعبير عن الرأى واختصاص الفتوى، ومن الظلم الشديد أن أحاكم مجموعة من الشباب المتحمس، لأنهم فجروا سياحاً أو ضربوا منطقة ما- ولا شك أن ذلك الفعل في حد ذاته نوع من الإجرام- وأترك من أفتوهم بجواز ذلك طليقاً، فلولا الفتوى التى استندوا إليها ما فعلوا ذلك.
وهناك اليوم من يتحدث عن «الفئة الضالة» من المجرمين، لكن من يتحدث اليوم عن «الفئة المضلة» التى أضلت هذه الفئة الضالة وأخرجتها عن المسار الصحيح؟! كذلك الأمر بالنسبة إلى هذه «الفتاوى الشاذة» المنحلة بالتقبيل أو الزنى بالتراضي، وإلا فمن حق مفتي التفجيريين أن يحتج بأن فتواه محمية بحرية التعبير عن الرأي.
لماذا يطالبون بملاحقة الفئة الضالة ويتجاهلون الفئة المضلة
فالفتوى ممارسة اختصاص، تماماً كمن يعطي فتوى قانونية في قضية، وهو ليس بقانوني، ومن يعالج مريضاً وهو غير مجاز طبياً، أو من يبني عمارة وهو غير مؤهل هندسياً، كما أن هؤلاء جميعاً يحاكمون، كذلك الفتوى من باب أولى.
لا الشهادات ولا حتى الدكتوراه كافية للتأهيل للفتوى، والضابط في ذلك الرجوع إلى المفتين الحقيقيين، وهم الذين يعطونه إجازة الفتوى، وليس كل خريج من الأزهر مفتياً، وليس كل من لم يتخرج فى الأزهر لا يصلح للفتوى، مع العلم بأن أعظم المفتين في عصرنا هم من خريجى الأزهر، فالذي برع من الأزهر يكون من أعظم المفتين، لأن المنهجية الأصيلة الموجودة في الأزهر من شأنها أن توجد عقلية الفقيه، يسمونها النفس الفقيهة أو الملكة الفقهية.
المنهج الأصيل للأزهر كفيل بخلق الملكات الفقهية المؤهلة للفتوى
والأزهر في منهجه الأصيل- وليس المقتصر على الأكاديمي- قادر على خلق هذه العقلية، لكن حتى التأهيل الدينى ليس بكافٍ اليوم في الفتوى، إلا إذا كان المفتي سيقتصر على العبادات، فالذي سيفتى اليوم في المعاملات التجارية أو الاقتصاد أو السياسة أو في الأمور العسكرية أو الأمور العلمية، لا يجوز له شرعاً أن يفتي في ذلك إلا إذا كان مؤهلاً في هذه الأمور التى سيفتى فيها، أو بالرجوع إلى ثقة متمكن في هذا المجال، ولكى يرجع إلى ثقة متمكن لا بد أن تتوفر عنده آليات معينة.
الدكتور علي جمعة بني منهجاً رائداً لصناعة الإفتاء
سماحة الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية حفظه الله بنى منهجاً لصناعة المفتي، وهذه خطوة عظيمة جداً ليست لمصر فقط بل للعالم إذا تم تبنيها؛ فجزء من هذا المنهج شرعي يعود إلى الأزهر، وجزء منه تنظّم فيه دورات في الاقتصاد، وفي علم الإدارة والتخطيط الإستراتيجي، وعلم النفس لأنه يعدّ جزءاً مهماً في المفتي أن يفهم نفسية المستفتي ليتعامل معه.
أول ملمح تستطيع أن تلمحه فيمن يفتي “الفتاوى الشاذة” أنه لم يتخصص في الشريعة، لا أكاديمياً ولا على أيدي المشايخ. والمشكلة أننا نقدم أشخاصاًَ إلى العالم على أنهم مفكّرون إسلاميون لمجرد أنهم طرحوا الأسئلة الصحيحة التي غفل عنها المؤهلون وأجابوا عنها بطريقة خاطئة، ومثل هؤلاء استطاعوا أن يقتحموا الإعلام ويؤثروا في نفوس الناس.
مثل ماذا؟
بالرغم من أن مسألة الدخان ليست كبيرة، وبالرغم من أني لا أنفي احترام الكلام إذا قارب المنطق، ولا ينبغي أن يلغي الناس عقولهم، لأن الله أمرنا بذلك، لكن في الوقت نفسه أعود فأكرر، أننا قبل الاستماع إلى هذه الفتاوى، يجب أن أسأل ما هو اختصاصك يا من تتصدّى للفتوى؟ ومن شهد لك وأجازك في الإفتاء؟
تغيرت ملامحه قائلاً: «نسأل الله السلامة والعافية»، ثم تابع: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»: «سَتَأْتِى عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِى أَمْرِ الْعَامَّةِ». وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
وهناك رؤيا رآها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لم يُر ضاحكا بعدها، عندما أُرى في منامه من ينزو على منبره نزو القردة، والمستنبط من هذا الحديث، أن القرد «يقفز كثيراً» وفضولي ومقلد لغيره بغير فهم لما يفعل.
نحيا في زمن انقلاب المعايير وسنوات الخداع
سؤال مثل هذا مضحك مبكٍ فى عصرنا، أن يبني إنسان لنفسه تعريفاً خاصاً به لأمر شرعى قد عُرف وفُرغ منه، ثم يبني الأحكام بناءً على تعريفه، فهذا هو اللعب بالدين بعينه. والجواب عن هذا السؤال هو «شر البلية ما يضحك»، ومثل قائل هذه الفتوى يجب أن يحاكم مرتين، أولاً لممارسته الفتوى بغير اختصاص، ثانياً يحاكم بتهمة تحريض الشباب على الفعل الفاضح الفاحش.
توجد فتاوى وهابية على النقيض تماماً مثل فتاوى تحريم إهداء الزهور وتحريم القول بدوران الكرة الأرضية وتحريم تعلم اللغة الإنجليزية وتحريم لعب كرة القدم وفتوى الجهاد ضد الشيعة، وتحريم أداء التحية العسكرية وعدم دخول المرأة إلى شبكة الانترنت إلا في وجود محرم، فما رأيك في ذلك؟
التطرف دائما ًمرفوض هنا وهناك، وما سبق أن ذكر في شروط تأهيل المفتي ينطبق على من ذكرت فتواه، وقد كان في السابق من العلماء الأجلاء المؤهلين للفتوى من يخطئ في فتوى واحدة خطأ بيناً شنيعاً لكن لا تتحول هذه الفتاوى إلى أزمة لسببين: أولهما لم يكن هناك إعلام يصفق ويروج لها وينشرها، كما يحصل من إعلامنا اليوم، مما أدى إلى إغراء عشاق الشهرة كي يصرحوا بآراء منحرفة ليهرول الإعلام إليهم ويعرفهم بأنهم المفكرون والمجددون.
والسبب الثاني: عدم تولية الأمر أهله وإلا فلو صدرت من العالم هذه الفتوى الشاذة سيرد عليه علماء عصره ويتراجع أو ترفض فتواه.
أنا من حسين وحسين مني أحب الله من أحب حسينا
أشعر بالأسى أحياناً وبالغثيان أحياناً. فهذا الكلام غير مقبول لأن البداية كانت عند رفع المصاحف في معركة “صفين” استثماراً لعواطف المسلمين في صف الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ولتقديسهم لكتاب الله عز وجل، فكان هذا أول استثمار للدين في معركة سياسية، ومن العار المقيت جداً أن ترتفع أصوات في عصرنا تدعو إلى محاكمة الإمام الحسين، وللأسف هذه الأصوات سواء كانت ليبرالية، أو تتكلم باسم الإسلام والمرجعية الشرعية، تقع في من قال عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة”، وقال: “أنا من حسين وحسين مني أحب الله من أحب حسيناً”، ونحن لا نقول بأنه معصوم فعقيدتنا أهل السنة أنه ليس بمعصوم، ولكن كيف يثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على شخص بأنه سيد شباب أهل الجنة، ونقبل أن يتهم بأنه استغل الجانب الديني للسياسة؟
سيدنا الحسين لم يعترف بصحة بيعة يزيد، لأن يزيد أخذ البيعة من الناس على أنهم خول له أي خدم، ولا توجد عندنا بيعة لحاكم، على أن يكون الشعب خدماً له، فالإمام الحسين لم ير انعقادها أصلاً؛ وفي الوقت نفسه بويع الإمام الحسين وأرسل إليه أكثر من 14 ألف توقيعاً من أهالي البصرة فأصبح الحسين هو الخليفة المبايع، في ظل وجود من يريد أن يحول الشريعة، في مفهوم الحكم في الإسلام كله، من إدارة لشؤون الرعية، قد يعتريها خطأ أو ظلم أحياناً، إلى استعباد واستخدام.
آخر مرة كنت في الحرمين الشريفين منذ عامين.
صمَت قليلاً ثم قال: الله أكبر وأوسع وأعظم وأجل من أن تحصر في قطعة أرض، ولعلك عندما تزور سيدنا الحسين تشتم عند زيارته أنفاس جده الحبيب، صلى الله عليه وآله وسلم، فتشعر وكأنك في روضة النبي.
مادام بصيت له هترجعله
لأنني قدمت إلى مصر أصلاً لزيارة سيدنا الحسين، وفي آخر مرة قبل السفر، عندما بُلّغت بأمر الترحيل، طلبت من ضابط الأمن، أكرمه الله، قبل أن يأخذني إلى المطار زيارة أبي عبد الله الحسين؛ وبعد الزيارة الشريفة عند الخروج، سبحان الله، شعرت بقلبي مأخوذاً إلى سيدنا الحسين، فتوقفت والتفت مرة أخرى إلى جامع الحسين، فقال ضابط الأمن كلمة أثرت في كثيراً: “مادام بصيت له هترجعله”.
هي لاتزال نبتة مباركة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمها ببركة الاسم «طابة»، وهو من أسماء المدينة المنورة. ومن كرم الله أن جعل لها ثماراً مبكرة، لكن غايتها التي أسست من أجلها لا يزال الطريق أمامها، فالرسالة التى نأمل ونرجو الله أن يعين على أن تقوم بها المؤسسة هي إعادة تأهيل الخطاب الإسلامى المعاصر للاستيعاب الإنساني، والرؤية أن يتحقق هذا من خلال إعداد الدراسات والكوادر والمؤسسات، التي تؤدي هذه المهمة،
رسالة طابة إعادة تأهيل الخطاب الإسلامي المعاصر للاستيعاب الإنساني
وعلى هذا الأساس انقسمت المؤسسة إلى قسمين أحدهما تنظيري والآخر عملي، حتى إن مستشاري التطوير المؤسسي سألوا هل تريدها أن تكون «think» أو «do»، فقلت لهم حاولوا عمل توليفة اسمها «thought». والسبب في ذلك أن أحد إشكالات الخطاب الإسلامى اليوم الانفصال بين المفكر المنظر والداعية الذى في الساحة، فصار المنظر مغرقاً في التعمّق دون معايشة للواقع، وصار العامل فى الساحة لا يملك الوقت للاستماع للمنظر.
لهذا فالقسم التنظيرى فى «طابة» قسم أبحاث يقوم على عمل ملخصات تحليلية لأبحاث واستبيانات ودراسات تتعلق بالخطاب الإسلامى، وغالبها صدر عن غير المسلمين، وإيصالها إلى الدعاة والإعلاميين والعلماء والقياديين فى العالم الإسلامى، وهى موجودة على موقع المؤسسة على الشبكة فعلى سبيل المثال هناك ملخص تحليلى عن عصر «النانومتر» المقبل على العالم، والتحديات الفقهية والأخلاقية المترتبة عليه، وهناك أوراق بحثية، منها ورقة كتبت لوفد مبادرة «كلمة سواء»، الذي ذهب إلى الفاتيكان، عن موقف الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة من الإسلام، وفيها تبيين لمستوى وثقل كل تصريح يصدر عن البابا، فهذا هو قسم الأبحاث.
والقسم الثانى فى «طابة» يعمل على تطوير المؤسسات، أو تأسيس مؤسسات غير موجودة نحتاج إليها لخدمة الخطاب الإسلامى، مثل دار زايد للثقافة الإسلامية فى الإمارات، والأكاديمية الأوروبية للعلوم والثقافة الإسلامية فى بلجيكا.
وهناك قسم ثالث هو قسم «المبادرات»، الذى يعتني بإطلاق مبادرات، إحدها مبادرة اسمها «لتعارفوا»، لمد جسور التواصل بيننا وبين غير المسلمين، انبثقت عنها شراكتنا مع مؤسسة «آل البيت الملكية للفكر الإسلامى» في الأردن من خلال مبادرة كلمة سواء، كما نُظّمت دورة للشباب العربى، ليجيبوا عن الأسئلة المعتادة حول الإسلام.
أرى المشكلة ليست متعلقة بالحكم الشرعي، بقدر ما هى مشكلة ترجع أولاً إلى تنصير عالمي منظّم، لا أظن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية متورطة فيه، لكن هناك حركة تنصيرية عالمية تعمل بأجندة مؤسسية مدعومة، تشكل خطراً على استقرار وأمن الأقليات المسيحية في الدول أكثر مما تشكل خطراً على المسلمين أنفسهم، لأنها تعمل على الإخلال بالتوازن الطائفي المسيحي من الداخل فتحول الأرثوذكسي إلى إنجيلي، كما تقوم على استغلال الجوع والجهل والفقر والمرض وظروف الفتن والحروب للتأثير على الناس، والمسألة لا تتعلق باقتناع أو حرية اختيار شخصى، ولو كانت متعلقة بقناعات شخصية لوجدنا لها حلاً.
هناك حركة تنصيرية عالمية بأجندة مؤسسية مدعومة وبأساليب قذرة
هذه قضية أخرى وهي قضية استخدام الدين مطية لنيل متطلبات، مثلما استغل السياسيون الدين، ولد يحب بنتاً أو بنت تحب ولداً فيغير دينه من أجلها، والله أعلم بنوايا الناس.
الإشكالية الثانية: أن التنصير حركة خطيرة جداً، وقطعت شوطاً أبعد مما تظن أجهزتنا وأنظمتنا الأمنية نفسها في العالم الإسلامى ككل، إذ يعمل التنصير بأساليب خفية ماكرة، والقضية لا تتعلق بقناعة، وإنما باستغلال ظرف لصالح مقاصد أخرى. وفي هذا الملف دار بيننا وبين القيادات المسيحية في الولايات المتحدة نقاش عندما حضرنا في مؤتمر كلمة سواء في «جامعة ييل»، وطلب ١٢ قيادياً من أهم القيادات المسيحية في أمريكا أن نختار ١٢ من القيادات الإسلامية ونجتمع في جلسة مغلقة. وكان أول ما طرح في الجلسة المغلقة: «لماذا نحن نسمح لكم بالدعوة الإسلامية في الغرب، ولا تسمحون لنا بالتنصير في بلدناكم؟»
فكان أول رد عليهم: «أنتم لم تسمحوا لنا، بل من سمح لنا هو الليبرالية الغربية، وعندما كان الحكم لكم حصلت مآسي الأندلس وغيرها». ثانياً: نحن نؤيد حكوماتنا فى منع النشاط التنصيرى ليس من باب عدم الثقة في ديننا أو في ثبات أهله عليه، لكن الإشكال يكمن في طرق التنصير غير الأخلاقية التى لا يرضاها السيد المسيح عليه السلام نفسه، كأن يعطى أحدهم الأطفال لقمة حلوة، ويقول لهم هذه من عيسى ويعطيهم لقمة مرة، ويقول لهم هذه من محمد! أو استغلال الفقر والمرض والكوارث والحروب للتنصير.
ما يتخذه المنصرون من أساليب ومناهج خيانة للسيد المسيح
وقد دار حول هذه المسألة حوار لأكثر من ٣ ساعات. والحمد لله خرجنا من الحوار باقتناع عدد من أهم القيادات الأكاديمية والكنسية المسيحية بأسباب المنع، وقال أحد قيادات الدين المسيحى في أمريكا، ويتبعه ما يقرب من ٣٠ مليون مسيحى، إن الذى يفعله المنصّرون على النحو الذى ذكرته هو خيانة للسيد المسيح، وقال وصوته يختنق بالبكاء أنا أعتذر إليكم مما يصنعه هؤلاء.
البابا شنودة قال أن الفتح الإسلامي حفظ على الأقباط ديانتهم
الجزئية الثالثة متعلقة بتراكم حدث في مصر، لشرخ في صلة المسلمين بالمسيحيين الأقباط، فقد كان الأصل أن الفتح الإسلامى جاء منقذاً للمسيحيين الأقباط، وقد سمعت من البابا شنودة هذا الكلام شخصياً فى محاضرة ألقاها في مجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، عندما قال إن دخول الفتح الإسلامى إلى مصر هو الذى حفظ على الأقباط الأرثوذكس ديانتهم من الاضطهاد الذى كان يمارسه الرومان ضدهم.
واستمرت ولقرون متطاولة الصلة راقية وعالية للحد الذي لم يحصل في التاريخ مثيله، فالمسلمون العرب مع المسيحيين العرب يقفون ضد المسيحيين الذين أتوا من أوروبا مستغلين الصليب لتحقيق مصالح سياسية، ثم مرت فترة حصل فيها جور من بعض المسلمين، من ساسة واقتصاديين ورجال دين، في التعامل مع الأقباط، وحدث نوع من التعديات على حقوق الأقباط، في فترات زمنية وأطر ضيقة معينة، وأنا أدرك ثقل الكلام الذي أقوله، وقاوم ذلك علماء الأزهر، حتى أن الخديوي عباس الأول عندما غضب على الأقباط في ذلك الوقت، دعا الشيخ البرهان الباجوري، وكان الخديوي يعد نفسه تلميذاً للشيخ، فقال: أنا قررت أن أجلي الأقباط من مصر، فقال له الشيخ هذا لا يجوز ويحرم شرعاً، فهم من أهل الذمة ومن أهل البلد الذين ينبغي أن تحسن التعامل معهم، فمن غيظ الخديوي آنئذ من رفض الشيخ – وقد كان يتوقع أن يكون أول من يوافق على جلاء الأقباط من مصر- أخذ “مسرجة” أمامه ورمى بها هذا الشيخ، فتفادها حتى لا تشج رأسه.
وفي بعض القرى كان إذا مر القبطي على حماره بمسلم جالس فعليه أن ينزل من على الحمار! وهذا باطل وإهانة للإنسان لا تجوز. وهذا النوع من تراكم سوء التصرف أورث ردة فعل في بعض الأوساط القبطية،
دعوة لقيادات الجانبين بتكثيف ونشر ثقافة التواصل الودي
فوجدت بعض القوى الخارجية في ردة الفعل هذه فرصة كبيرة لاستثمارها وتحويلها إلى وسيلة لزعزعة استقرار مصر، وهذا يدعو القيادات الدينية من الجانبين المسلم والمسيحي إلى تكثيف تواصلهم، على غرار ما نراه من تزاور شيخ الأزهر والبابا شنودة، وقد رأيت على موقع “اليوتيوب” مقطعاً رائعاً لزيارة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمة الله عليه للبابا شنودة، وكانت على إثر أمر البابا شنودة بعض الأقباط المصريين بالخارج أن ينوبوا عنه في زيارة الشيخ الشعراوي للاطمئنان عليه عند تلقيه العلاج.
فهذه الثقافة تحتاج إلى أن تعمق وتنشر، وأن يكون لدى القيادات الدينية شجاعة أن يقدموا على مثل هذه الخطوات، وإن عاتبهم أو شتمهم المتطرفون من أتباعهم. وأعلم أن كلامي هذا سيهيج المتطرفين لكنه الحق.
لم أقل هذا لكن هناك وضع طبيعي وآخر غير طبيعي، وعندما يكون هناك وضع طبيعي لن تتحول هذه المسألة إلى مشكلة يحتاج أن يسألني عنها صحفي، لكن هناك وضعاً غير طبيعي هو الذي أحدث المشكلة، قد يكون جزء منه له علاقة بالزواج وجزء آخر له علاقة بالاحتقان الموجود بين الطرفين، وأساسه أن زمام الخطاب الإسلامي ليس بأيدي أهله، عندكم في مصر يقولون “أعط القرص لخبازه”.