خاطرة الإثنين حول العمق القِيَمي لمسيرة .. والتخلّف المُضني عن السيرة..
الحمد لله
لا تقتصر القِيَم التي أحياها “مانديلا” على قيمة نضاله ضد العنصريين، فقد سبقه إلى ذلك في جنوب أفريقيا الشيخ المناضل “عبد الله هارون” الذي مات تحت سياط التعذيب في السجن..
لكن القيمة العظيمة التي أحياها “مانديلا” هي أنه علّم شعبه، بل أعطى درسًا للعالم المعاصر في كيفية تعامل المنتصر مع من عذّبوه واعتدوا عليه بالعفو والسماحة، وكيف يتجاوز القائد بشعبه مضيق التوقف عند الماضي ليَبني معهم المستقبل.
بينما نسينا “نحن” قول سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم يوم انتصاره لكُفّار قريش الذين آذوه وعذبوا أصحابه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” فكان ذلك سببًا في دخولهم الإسلام وإسهامهم في نشر قِيَمه السامية في أرجاء العالم١.
ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم وقف لجنازة يهودي، وأجاب على من قال له: “إنّه يهودي” بقوله: “أليست نفْسًا”؟٢
وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أثنى على حِلف الفُضول وهو حلفٌ عُقِد في الجاهلية لنصرة المظلوم فقال: “لقد شهدتُ مع عمومتي حِلفًا في دار عبد الله بن جدعان ما أُحب أنّ لي به حُمر النَعَم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت” ٣.
ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم رفض أن نجعل من ظُلم الآخرين لنا مُبرّرًا للاعتداء على أبناء عرقهم أو دينهم فلم يجعل من خيانة يهود بني قينقاع وبني النضير ويهود خيبر مُبرّرًا للاعتداء على كل يهودي في المدينة فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي مقابل طعام اشتراه منه، فلم يُقاطعه ولم يستحلّ ماله بتبرير أن أبناء عرقه ودينه قد اعتدوا وخانوا٤.
ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم حذّرنا من البغضاء وسماها “داء الأمم” فقال: “دَبّ إليكم داءُ الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر”٥.
كما نسينا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “صِلْ من قطعك وأعطِ من حرمك واعفُ عمن ظلمك”٦.
ونسينا “نحن” قول سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلُح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”٧.
ونسينا “نحن” أنّ سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم تذكّر عقب انتصاره في غزوة بدر رجلاً لم يدخل الإسلام لكنّه دافع عنه يوم عودته من الطائف وتبنّى حمايته من بطش الكفّار وذكر أنه لو كان حيًا وتشفّع في أسرى الكفّار لقبل ذلك منه وأطلق سراحهم إكرامًا له٨.
كما نسينا أنّ حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظم أبياتًا في رثاء “الكافر” مطعم ابن عدي ومدحه فيها مدحًا عظيمًا٩.
ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم سارع إلى قبول صلح الحديبية بالرغم من شروطه الظالمة، لأنه سوف ينقل الصراع من مرحلة العنف المُسلّح إلى مرحلة الدعوة السلمية في حال التزام كفّار قريش ببنوده، وواجه بحزم من لم يتقبّلوا هذا الصلح من أصحابه رضي الله عنهم.
كما نسينا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أصدر عفوًا عن المجرمين الذين أهدر دمهم ولو تعلّقوا بأستار الكعبة بمجرد أن تمكّن من فتح مكة وانتهت فرصتهم في جرّ قومهم إلى مواجهات دامية، ولم يكن قد قُتِل منهم إلا ثلاثة، فكان ممن عفا عنهم عكرمة بن أبي جهل، فرحب النبي به، ونهى المسلمين عن ذكر أبيه بسوء رعاية لمشاعره، بالرغم من أن أباه كان أشدّ الناس عداوة للنبي وأكثرهم تحريضًا على قتال المسلمين.
وأخيرا..
لأجل هذه القيم وأمثالها احترم العالم “مانديلا” وتأثروا به حيًا وميتًا، وبها وحدها يمكن أن يكون لنا دَورٌ حقيقي في نفع البشرية جمعاء، وبها ننال رضوان الله، وتَقَرّ بنا عين حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبدونها لن يكون لنا قيمة في الدنيا ولا منزلة رفيعة في الآخرة.
{وإنّكَ لَعلى خُلقٍ عظيمٌ}.
اللهم اهدنا إلى مكارم الأخلاق ورُدّنا إلى هدي حبيبك المصطفى مَرَدًّا جميلاً.. يا هادي يا رشيد.
——————-
١. ابن إسحاق في السيرة، ونصَّ الحافظ ابن حجر على تحسينه في الفتح.
٢. البخاري ومسلم.
٣. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما.
٤. رواه البخاري ومسلم.
٥. حديث حسن لغيره رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن عبد البر في التمهيد
٦. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده.
٧. البخاري ومسلم.
٨. السيرة النبوية للحافظ ابن كثير.
٩. الأبيات هي:
أجرتَ رسولَ اللهِ منهم فأصبحوا عـبادك ما لَبَّى مــُـحــــلٌّ وأحــــرمــــا
فـلو سُئِلت عـنه مَعْـدٌ بأسرِها وقحطان أو باقي بقيّةَ جُرهُما
لقالوا هو المُوفِي بِخَـفْرَةِ جارِهِ وذِمَّتهُ يوما إذا ما تجَشّما
وما تطلعُ الشمسُ المُنيرة فـوقَهم على مِثلِهِ فِيهِم أعزَّ وأكرما
إباءٌ إذا يأبى وأليَن شِيمَةً وأنومُ عن جارٍ إذا اللّيلُ أظلما
سيرة ابن هشام