ربما لم يعرف التاريخ الإنساني ظاهرة تاريخية حملت مصطلحاً مناقضاً لحقيقتها مثل الحروب الصليبية- وهو ما يطلق عليه عند المسلمين: حروب الفرنجة: لتمييز مسيحيي الشرق شريكي الوطن عن غيرهم- استخدم الغرب هذا المصطلح علي اعتبار أنه يعني النبل والخير والعدل. ولكن هذا المصطلح المضلل المربك كان نتاجه عدداً من التطورات التاريخية السيئة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء.
ربما لم يعرف التاريخ الإنساني ظاهرة تاريخية حملت مصطلحاً مناقضاً لحقيقتها مثل الحروب الصليبية- وهو ما يطلق عليه عند المسلمين: حروب الفرنجة: لتمييز مسيحيي الشرق شريكي الوطن عن غيرهم- استخدم الغرب هذا المصطلح علي اعتبار أنه يعني النبل والخير والعدل. ولكن هذا المصطلح المضلل المربك كان نتاجه عدداً من التطورات التاريخية السيئة في التاريخ الأوروبي وفي التاريخ العربي على حد سواء.
كانت البداية الفعلية لتلك الحروب في السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1095م بالخطبة التي ألقاها البابا أربان الثاني في حشود المستمعين الذين اجتمعوا في جنوب فرنسا, ووجه خلال هذا اللقاء دعوة بشن حملة تحت راية الصليب ضد المسلمين في فلسطين.
ونتج عن ذلك أن خرج البطارقة يحثون على الذهاب إلى البيت المقدس خشية أن يضيع من بين أيديهم, وأخذ البطرك الذي كان بالقدس يطوف بالبطارقة بلاد الغرب يستنجدون أهلها ويستجيرون بهم ويحثونهم على الأخذ بثأر البيت المقدس, وكان عند الغربيين في هذا الوقت من الباعث الديني والنفساني ما كان سبباً لاقتناعهم بذلك وخروجهم في حربهم.
وعندما وصلت جيوش الغرب إلى القدس لم يراعوا لساكنيها عهداً, وقد رصد التاريخ الإسلامي حدث دخولهم القدس بكثير من التفصيل والدقة سردها الإمام ابن الأثير رحمه الله في كتابه الكامل; فذكر أن المذبحة استمرت طوال يوم الدخول وليلته واقتحم الفرنجة المسجد الأقصى في صباح اليوم التالي وأجهزوا على من احتموا فيه, وصبغت ساحات المسجد بدماء العباد والزهاد الركع السجود, وتوجه قائد الحملة في الضحى لدخول ساحة المسجد متلمساً طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته, وكان النظر لا يقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام المقطعة في الطرقات والساحات, ونهب الفرنجة جميع الأمتعة وخربوا أثاث المسجد الأقصى وقبة الصخرة, ونهبوا القناديل التي بلغت نيفاً وأربعين قنديلا; كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم, وأخذوا نيفا وعشرين قنديلاً من ذهب. وأبادوا أهل أنطاكية وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وقنسرين وطبرية وغيرها من البلاد وهجروا أهلها منها وفعلوا الأفاعيل العظيمة التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.
وخلال الفترة من عام 1096م إلى عام 1291م قامت عدة مستوطنات صليبية على التراب العربي في فلسطين وأعالي بلاد الشام والجزيرة, وتعين على سكان هذه المنطقة العربية أن يدفعوا ثمناً فادحاً لكي يقضوا على الكيان الصليبي من جهة, ويتصدوا للمشروعات والغارات الصليبية المتأخرة من جهة أخرى.
ولم يدم الأمر لهؤلاء كثيرا; فقد دارت بينهم وبين المسلمين المعارك العنيفة; حتى قاد صلاح الدين الأيوبي ضدهم معركة حطين في 4 يوليو1187 م قرب قرية المجاودة, بين الناصرة وطبرية; حيث كان النصر حليف المسلمين فيها, وأبلى القائد صلاح الدين الأيوبي فيها بلاء حسناً, ووضع فيها الفرنجة أنفسهم في وضع غير مريح استراتيجياَ في داخل طوق من قوات صلاح الدين أسفرت عن سقوط مملكة القدس وتحرير معظم الأراضي التي احتلها الصليبيون (النوادر السلطانية لابن شداد 1/131).
ولما فتح صلاح الدين البيت المقدس أقام بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحواله, وتقدم بعمل الربط والمدارس, وأمر بإعادة الأبنية إلى حالها القديم, فإن من كان فيها من الفرنجة قد بنوا غربي الأقصى أبنية ليسكنوها, وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من بناء ومستراح وغير ذلك, وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى الأول, وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس, ففعل ذلك أجمع.
وعمر صلاح الدين المسجد الأقصى واستنفد الوسع في تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه, وأحضر له من الرخام الذي لا يوجد مثله, ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاج إليه, ومحا ما كان في تلك الأبنية من الصور, وكان الفرنجة قد فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها; فأمر بكشفها, ونقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة, والربعات الجيدة, ورتب القراءة, وأدر عليهم الوظائف الكثيرة; فعاد الإسلام هناك غضاً طرياً, وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس لم يفعلها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه غير صلاح الدين رحمه الله وكفاه ذلك فخرا وشرفا.( انظر: الكامل لابن الأثير 5/178).
لقد كانت ما يسمي بالحروب الصليبية من أهم الأسباب التي عطلت قوي الإبداع والنمو في الحضارة الإسلامية, وبعد نهاية النضال ضد الفرنجة دخلت المنطقة العربية في منحنى التدهور والأفول. كانت الحملات الصليبية ضد الشرق العربي أول المشروعات الاستعمارية الأوروبية, وأيضاً كانت المرحلة التي سبقت مرحلة الاستعمار الحديث, وكانت من ناحية ثالثة إلهاماً للتجربة الصهيونية ذات الأهداف الاستيطانية.